خلفية المشروع ونطاقه

خلفية المشروع ونطاقه

لقد أدت الاحتجاجات التي اجتاحت أجزاء من الشرق الأوسط بدءاً من ديسمبر 2010 إلى تغيرات دراماتيكية في المشهد السياسي للمنطقة. فالحكام الذين ساد الظن على نطاق واسع بأنهم غير قابلين للإزاحة، من زين العابدين بن علي تونس إلى حسني مبارك مصر إلى معمر القذافي ليبيا، تم إسقاط كل منهم في غضون أشهر. وحتى الآن، شهدت مصر وليبيا وتونس واليمن إزاحة لقادتها الأقوياء، وتشهد سورية حرباً أهلية، ويهز البحرين الصراعُ والعنف، بينما يعاني عدد من دول المنطقة مستويات متفاوتة من الغضب الشعبي وعدم الاستقرار.

وبينما يمكن اعتبار أن الأنظمة قد سقطت والحكام المستبدين قد خلعوا، فإن بلدان الشرق الأوسط المشار إليها مازالت في طور التحول السياسي والتغير الاجتماعي. فالأنظمة السياسية التي ستتوطد في النهاية في كل بلد، سوف تعتمد على السياق الخاص والخطة الزمنية لكل منها، مع أن من الواضح أن أنظمة الحكم الجديدة وتركيبتها تختلف عن تلك التي حلت محلها. وعلى كل حال، يمكن القول بشيء من الثقة، أن هناك ما تشترك به في الأساس جميع هذه الصراعات والاحتجاجات الشعبية، ويلخصها جميعاً، وهو النزوع إلى حقوق المواطنة والعدالة والكرامة.

والمجتمعات التي تتحول من النظم القديمة إلى النظم الجديدة- ولاسيما تلك التي أسقطت نظمها الحاكمة- غالباً ما تتعامل مع هذه القضية الشائكة بإعادة النظر في ماضيها قبل أن تتمكن من بناء مستقبلها الجديد على نحو فعال. فتجارب المناطق الأخرى من العالم، التي أسقطت الحركاتُ السياسية دكتاتورياتها، تبين أنه من أجل بناء سلم دائم في حالات النزاع السابقة، لابد أن يثق المواطنون بوجود بنى شرعية تقوم بمعالجة المظالم السابقة. لقد ظهرت فكرة أن إقامة العدل خلال مرحلة التحول السياسي أمر جوهري لبناء السلم، والتي يشار إليها على نطاق واسع بـ “العدالة الانتقالية”، في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، لكنها اكتسبت زخماً كبيراً منذ ثمانينات القرن العشرين.

تشتمل العدالة الانتقالية على مجموعة من السياسات والتطبيقات والآليات القضائية وغير القضائية التي يجب أن تنفذها البلدان التي عانت من النزاع، لكي تتصالح مع إرث “شرها” السابق، ومعالجة المظالم الاجتماعية والسياسية المتبقية، وإعادة بناء علاقات المواطنة، والتأكد من أن العمليات السياسية الناشئة لديها الشرعية اللازمة والدعم الشعبي العام. ومن بين عدد من المسائل والمهام الأساسية التي على نظام العدالة الانتقالية معالجتها، إنهاءُ أي انتهاكات لحقوق الإنسان ومنع حصولها في المستقبل، والتحقيق في الانتهاكات السابقة، وتقديم التعويض للضحايا، وضمان معاقبة مرتكبي هذه الأفعال، وإنشاء آليات لضمان السلم الدائم من خلال دعم المصالحة الوطنية. وتشمل الوسائل التي يتم من خلالها تنفيذ العدالة الانتقالية المحاكمات والتعويضات وإعادة إحياء سيادة القانون، وإنشاء محاكم الحقيقة والمصالحة، والإصلاح المؤسسي، ولاسيما إصلاح قطاع الأمن.

ليس من السهل تحقيق سيادة القانون والتوصل الى تفاهمات بشأن انتهاكات حقوق الإنسان السابقة والتهميش السياسي بعد انتهاء الصراع. ففي الفترات الانتقالية غالباً ما تكون المؤسسات ضعيفة أو غائبة، والموارد المالية محدودة، وهياكل الحكم تفتقر إلى القدرات. بالإضافة إلى ذلك، قد تسوء حالة الأمن ويعاني المواطنون من الارتياب والصدمة، وربما يكون هناك نقص في الإرادة السياسية الكافية لإجراء إصلاحات جدية ومعالجة المظالم السابقة.

لقد حظيت العدالة الانتقالية باهتمام علمي كبير في مناطق أخرى كثيرة من العالم، ولاسيما حيث تتحول الأنظمة الاستبدادية نحو الديمقراطية، وهناك كم غني من المؤلفات حول الموضوع. أما في الشرق الأوسط، حيث كان البحث الأكاديمي حول العدالة الانتقالية محدوداً، فقد أنعشت الأحداث الأخيرة الاهتمام بهذا الموضوع. كانت العدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الموضوعات الرئيسية التي أثارها المتظاهرون خلال الانتفاضات في منطقة الشرق الأوسط. وقد وضعت عدة دول في المنطقة تلك القضايا على جداول أعمالها الوطنية، وأطلقت آليات للعدالة الانتقالية، وعمليات الحوار، وطرحت مسائل أخرى متنوعة ذات صلة بتلك الموضوعات. إن البحث في مسألة العدالة الانتقالية في الشرق الأوسط راهن وضروري، ويمكن أن يسهم بشكل كبير في مجموعة المنح البحثية المطروحة حول هذا الموضوع.

في هذا السياق، أطلق مركز الدراسات الدولية والإقليمية مبادرة بحثية متعددة التخصصات حول “العدالة الانتقالية في الشرق الأوسط” في العام الدراسي 2013-2014. والغرض من هذا المشروع دراسة تجارب العدالة الانتقالية التي ظهرت في الشرق الأوسط خلال مرحلة ما بعد الانتفاضات.

 

وهذه بعض المواضيع ومجالات البحث التي سوف نتناولها خلال هذا المسعى البحثي:

  • ركزت العدالة الانتقالية، تقليدياً، على التصدي لانتهاكات حقوق الإنسان والتجاوزات السياسية، وليس على المساءلة الاقتصادية. أما في الشرق الأوسط فقد أوضحت الانتفاضات أيضاً أن هناك اهتماماً كبيراً بمسؤولية الأنظمة السابقة عن “جرائم اقتصادية” مثل تفشي الفساد والمحسوبية. فهل يمكن لآليات العدالة الانتقالية أن تكون فعالة في التعامل مع الجرائم الاقتصادية والفساد، وإذا كان الأمر كذلك، كيف توفر لنا دول الشرق الأوسط مزيداً من التفصيل حول هذا الأمر؟
  • هل هناك وقت “صحيح” ووقت “خاطئ” لإرساء عمليات العدالة الانتقالية؟ لقد ناقش الخبراء مدى الحكمة في الشروع بإجراءات العدالة الانتقالية بسرعة أكبر مما يجب في مختلف الدول العربية، بالنظر إلى أن عدداً منها قد اعتمد بالفعل آليات العدالة الانتقالية، ولكن ذلك تم في غياب تسوية سياسية ودون تكريس الوقت المناسب للحوار. كيف تتعامل الدول المختلفة مع الإرث التاريخي لانتهاكات حقوق الإنسان وسط سياقات العنف الجارية وعدم الاستقرار والطائفية؟
  • في حين قد تثير العدالة الانتقالية الاهتمام المحلي بالعدالة الاجتماعية وسيادة القانون، فضلاً عن الاعتراف والتعويض عن أخطاء الماضي، فإن جميع مجتمعات ما بعد الصراع قد لا تشعر بالميل لتكريس اهتمام متساوٍ لهذه الآليات المختلفة أو قد لا تكون قادرة على ذلك. فقد تؤثر الديناميات السياسية الداخلية للدول المختلفة في نوع العدالة الانتقالية الذي يمكن تحقيقه. والبلدان الخارجة من الصراع في الشرق الأوسط أظهرت في السابق اتجاهاً لعدم الرغبة في مواجهة أخطاء الماضي أثناء مسيرتها نحو بناء السلم. ففي لبنان، على سبيل المثال، اتجهت جهود المصالحة الوطنية نحو تجنب تأجيج التوترات الطائفية، مما أدى إلى عدم مواجهة أخطاء الماضي بشكل كامل.
  • كيف تعمل آليات العدالة الانتقالية عندما يكون النظام السياسي عملياً في حالة انتقالية متوقفة أو حتى لا يمر بمرحلة انتقالية على الإطلاق؟ في المغرب، لا يزال النظام سليماً، ولكن الدولة عملت بشكل استباقي على معالجة مظالم الماضي وانتهاكات حقوق الإنسان. هل يمكن لآليات العدالة الانتقالية أن تغير عملياً من اتجاه نظام ما؟ في تحولات مصر “المتعثرة” انتشرت الانتقادات التي تقول إن آليات العدالة الانتقالية، باعتمادها سرعة زائدة عن الحد، تم التلاعب بها من قبل نخب الدولة بهدف عرقلة الإصلاح الحقيقي. وفي البحرين، حيث بدأ النظام الملكي بعض المحاولات في العدالة الانتقالية ولكن مع عدم وجود توافق وطني، لا تزال هذه الجهود غارقة في الجدل.
  • غالباً ما ينظر إلى الجهود الدولية لدعم جهود العدالة الانتقالية على أنها مسيسة للغاية، وتعبر عن المصالح الدولية في التطورات السياسية المحلية. ومع ذلك فإن الجهود الوطنية غالباً ما تكون ضعيفة بحد ذاتها ويكون الدعم الخارجي ضرورياً للسير بآليات العدالة الانتقالية قدماً إلى الأمام. كيف تتعامل المنظمات الدولية مع ممارسات العدالة الانتقالية الحالية في الشرق الأوسط؟ ما هو الدور الذي تلعبه الجهات الدولية الفاعلة في تشكيل آليات العدالة الانتقالية في المنطقة، وكيفي يُنظر إلى هذه الآليات؟

 كتبت المقال زهرة بابار، مدير البحث المساعد في مركز الدراسات الدولية والإقليمية