خلفية المشروع ونطاقه

خلفية المشروع ونطاقه

أدت العائدات الضخمة  لدول مجلس التعاون على مدى العقود الماضية إلى زيادة التنمية التي تقودها الدولة في العديد من القطاعات الاقتصادية- الاجتماعية المختلفة. فجنباً إلى جنب مع الاستثمار في القطاعات الإنتاجية، خصصت دول المجلس استثمارات كبيرة لتعزيز القطاعات الاجتماعية كالتعليم وتنمية رأس المال البشري والرعاية الصحية. لقد بذلت كل من الدول الست جهوداً ضخمة لإنشاء البنية التحتية، ولتوسيع وتحديث أنظمة التعليم والرعاية الصحية، وتوفير الخدمات الاجتماعية والصحية التي تتناسب مع الاحتياجات الوطنية ومع توقعات المواطنين. وبينما تختلف التقديرات اختلافاً كبيراً بين المصادر المختلفة ، فإن الإنفاق على الرعاية الصحية في دول مجلس التعاون يقدر حاليا بما يقرب من 25 مليار دولار أمريكي، ومع النمو المتوقع في الطلب تشير التقديرات إلى أن ذلك الإنفاق سيرتفع إلى 44 مليار دولار بحلول عام 2015، وإلى 60 مليار دولار بحلول عام 2025.

وفي حين كرست دول الخليج جهوداً كبيرة لتعزيز قطاع الرعاية الصحية، فإن المنطقة لم تتطابق بعد مع غيرها من الدول المتقدمة من حيث البنية التحتية والقدرات. يحدث هذا في وقت تواجه فيه دول مجلس التعاون عدداً من التحديات الخاصة بالرعاية الصحية وتعكس السياساتُ في الدول الست كلها قلقاً متزايداً من الطلب المتعاظم على الرعاية الصحية الراقية والعبء الاقتصادي المتزايد للدولة. وعلى الرغم من هذه التحسينات في نتائج الرعاية الصحية، فإن النمو السكاني السريع، وارتفاع معدلات العمر المتوقع وشيخوخة السكان، فضلاً عن الظروف الصحية السائدة في المنطقة، استدعت إلى الصدارة الحاجة إلى تدخل الدولة على نحو أكثر تركيزاً. بالإضافة إلى ذلك، ارتفعت توقعات المواطنين في دول المجلس بشأن نوعية ومستوى تقديم الرعاية الصحية الوطنية. وعلى الرغم من أن النهج والخطط والرؤى بعيدة المدى والاستراتيجيات الخاصة بتحسين الرعاية الصحية الوطنية تختلف من دولة لأخرى من الدول الست، فإن الدولة تلعب دوراً أساسياً في جميع الحالات.

لقد أدت التغيرات السريعة في البيئة ونمط الحياة في الخليج على مدى عقود إلى تغيير تام للوضع الصحي في المنطقة. وفي حين انعكست النجاحات الكبيرة في مكافحة الأمراض المعدية وتحسين معايير الرعاية الصحية الأولية في مؤشرات صحية رئيسية- مثل خفض معدلات وفيات الرضع والأمهات والزيادة الكبيرة في العمر المتوقع- فقد ظهرت أنماط واتجاهات جديدة في مجال الرعاية الصحية، الأمر الذي طرح تحديات متنوعة وهامة جداً. فنحن نشهد في الخليج على نحو متزايد ظهور الأمراض المرتبطة بـ “نمط الحياة” أو “البلد الغني” مثل مرض السكري المزمن وأمراض القلب والسرطان،التي تنتشر عادة في البلدان المتقدمة للغاية. هذه التحديات الجديدة تتطلب عاملين مهرة مدربين تدريباً عالياً في مجال الرعاية الصحية، وبيئة تدعم التدريب المحلي، ومختبرات فنية متطورة للتشخيص، كما تتطلب إنتاج البحوث ونشرها، واكتساب المعرفة لتلبية الاحتياجات الناشئة للرعاية الصحية.

وتؤثر التركيبة السكانية في المنطقة أيضاً على احتياجات نظام الرعاية الصحية وشروطه. فالتشعب في الفئات السكانية بين المواطنين والوافدين ذوي المهارات العالية والدخل العالي، والأعداد الكبيرة من العمال المهاجرين ذوي الدخل المنخفض، يخلق احتياجات صحية مختلفة للشرائح المختلفة من السكان. وتهيمن الخبرات الوافدة في مجال الرعاية الصحية في دول الخليج في الوقت الحاضر. لذا لفت مهنيو الصحة العامة الانتباه إلى الحاجة الماسة لتطوير الخبرات الوطنية والإقليمية في مجال إدارة الرعاية الصحية لدول مجلس التعاون. وقد أنشأت العديد من دول المنطقة في الآونة الأخيرة معاهد فنية حكومية للتعليم والتدريب الطبي، صُممت خصيصاً لبناء كادر وطني من المهنيين الصحيين، وهو أمر ضروري أيضا لبناء خبرات وطنية في إدارة الرعاية الصحية. ولا تزال التكنولوجيا الطبية محدداً رئيسياً لأنظمة الرعاية الصحية القوية، لذلك تلعب مجالاتٌ إضافية مثل البحث والتطوير دوراً محورياً في الاستراتيجيات الجديدة التي وضعتها الدول.

تتحمل الحكومات حتى الآن معظم تكاليف الرعاية الصحية للمواطنين في دول مجلس التعاون، الأمر الذي صار يشكل تحدياً كبيراً للدولة. فمعظم المواطنين، ولاسيما في الدول الأكثر ثراءً كقطر والإمارات العربية المتحدة، يفضلون تلقي العلاج الطبي في الخارج بدلاً من الاعتماد على نظام الرعاية الصحية الوطني، وهو ما تتعهد الدولة بتمويله في معظم الحالات. وقد زاد هذا إلى حد كبير من عبء تكاليف الرعاية الصحية للدولة. ومع تزايد التكاليف المرتبطة بخدمات الرعاية الصحية، صرنا نشهد تحولاً في جميع أنحاء المنطقة، حيث تتحول الحكومات صراحةً عن النهج التقليدي للرعاية الصحية باتجاه ​​نماذج بديلة. فقد حاولت بعض دول الخليج جعل قطاع الرعاية الصحية أكثر جاذبية لرجال الأعمال في القطاع الخاص. ومن المفترض أن الحكومات يمكن أن تلعب دوراً أكثر فاعلية في إدارة احتياجات الرعاية الصحية الإقليمية من خلال توفير البنية التحتية وتعزيز البيئة التنظيمية، وخلق بيئة أكثر ملاءمة للقطاع الخاص. ومع ذلك، فإن من غير الواضح ما إذا كانت الحكومات ستتخلص نهائياً من نظام الرعاية الصحية الحالي الذي تقوده الدولة. قد تكون الحكومات راغبة في دعم دور للقطاع الخاص، في الوقت الذي تبقي فيه على عاتقها المسؤوليةَ الأساسية في توفير الرعاية الصحية.

في حين لفتت المنحُ الدراسية الأخيرة الانتباهَ إلى التطورات التعليمية في دول الخليج، لم يعِرْ علماء الاجتماع حتى الآن سوى اهتمام ضئيل للطرائق التي تُطوِر بها المنطقة السياسات والممارسات في مجال إدارة الرعاية الصحية. ومن أجل تعزيز البحث الأكاديمي الجاد لهذا الموضوع، يطلق مركز الدراسات الدولية والإقليمية مشروعاً بحثياً جديداً بعنوان “سياسات الرعاية الصحية والسياسة في دول الخليج”. والغرض من هذه المبادرة البحثية تحديد الآثار الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الناجمة عن إدارة الرعاية الصحية في المنطقة. يحتاج البحث المعمق للرعاية الصحية في دول الخليج إلى تركيز الاهتمام على ثلاثة مجالات رئيسية: بيئة الرعاية الصحية، وتقديم الرعاية الصحية، واقتصاديات الرعاية الصحية. وباعتماد منظور متعدد التخصصات، سيبحث هذا المشروع الأوضاع الحالية لنظم الرعاية الصحية في دول مجلس التعاون، ويحدد التحديات والضغوط الحالية على الدول والمجتمعات، ويقيّم محاولات الدول مواجهة تلك التحديات عبر أجهزة رسم السياسات فيها.

وتشمل المواضيع وميادين الدراسة التي سوف نتناولها من خلال هذا المسعى البحثي ما يلي:

  • اعتمدت دول الخليج مجموعة من المبادرات لإصلاح أنظمة الرعاية الصحية الوطنية. ما هي الآثار المترتبة على هذه التغييرات لوصول الخدمات الصحية إلى المجموعات المتباينة من السكان وما نوعية تلك الخدمات؟
  • كان عبء إدارة اقتصاديات الرعاية الصحية الإقليمية حتى الآن على عاتق القطاع العام. لكن كلاً من دول الخليج شرعت مؤخراً في اعتماد برامج لتنشيط الجهات الفاعلة في القطاع الخاص. كيف تساعد الخصخصة والتأمين الصحي على مواجهة التحديات التي تلوح في الأفق من مرض السكري وأمراض القلب والسرطان؟
  • تعدّ القضايا المتعلقة بأعداد القوى العاملة ونوعيتها مصدر قلق لبلدان المنطقة، وكذلك إيجاد المعايير التنظيمية التي تحكم دخول تلك القوى والتأكد من كفاءتها ووضع تلك المعايير موضع التنفيذ. ولكن هل يعدّ وضع المعايير التنظيمية كافياً لخلق قوى عاملة صحية قوية؟ أم لابد من اتخاذ خطوات أخرى؟
  • هل لدى دول مجلس التعاون شعور زائف بالأمان فيما يتعلق بالأمراض المعدية؟ ونظراً للموجة الأخيرة من الأوبئة العالمية التي تجتاح الدول على حين غرة، هل تبذل دول المجلس جهوداً كافية للاستعداد لهذه الأنواع من الحالات الصحية الطارئة؟
  • ما هي الأنماط المتباينة لطرق الحصول على الرعاية الصحية في دول مجلس التعاون؟ فالمعلومات المتوفرة عن الاحتياجات الصحية للعمال المهاجرين وكيفية وصولهم لنظام الرعاية الصحية قليلة.
  • هناك أيضاً حاجة لمعالجة الآثار الاجتماعية والطبية في مجالات أخرى مرتبطة بالرعاية الصحية، ولاسيما تلك التي تخص الفئات الضعيفة، مثل الذين يعانون من مرض عقلي، ومتعاطي المخدرات والمدمنين، والقضايا المتعلقة بتنمية الطفولة في المراحل المبكرة.
  • هناك حاجة أيضاً إلى إصلاح الرعاية الطبية الطارئة وتوسيع نطاقها في منطقة الخليج. كيف يجري إصلاح الخدمات الطبية الطارئة، وما هي التحديات الخاصة بالمنطقة في هذا الشأن؟ هنا تعدّ إصابات الحوادث المرورية والرعاية في حالات الطوارئ مسألة حاسمة.

 كتبت المقال زهرة بابار، مدير البحث المساعد في مركز الدراسات الدولية والإقليمية