خلفية المشروع ونطاقه

يلازم البناء الأمني السائد في الخليج الفارسي، والذي ظهر منذ ثمانينات القرن الماضي، عيبان جوهريان. أولهما ناجم عن الاعتماد التام على أهداف ومكونات قوة الولايات المتحدة، وهو يقوم على فرضية استبعاد واحتواء وتهميش اثنتين من أكبر وأهم الدول في المنطقة، هما إيران والعراق. وقد استلزم القيامُ بذلك الالتزامَ باستقدام قوات عسكرية أمريكية واسعة، وبالتالي محفوفة بالمخاطر بطبيعتها، إلى المنطقة. ربما تمكنت الولايات المتحدة في الواقع من تحييد واحد من التهديدات المتصورة، هو العراق، لكن ذلك لم يتم إلا بعد غزو واحتلال مكلفَين. غير أن تكرار ذلك مع إيران يبدو مستبعداً جداً. بدلا من ذلك، سعت الولايات المتحدة وحلفاؤها في المنطقة لاحتواء إيران وتهميشها من خلال الوجود العسكري المكثف والردع في الخليج الفارسي. ومع ذلك، وعلى الرغم من الالتزام العسكري واسع النطاق، إلى جانب العقوبات التي فرضت على إيران بسبب برنامجها النووي، فشلت الجهود في إنشاء البنية الأمنية التي تقودها الولايات المتحدة في الخليج الفارسي في جعل المنطقة آمنة.

العيب الثاني للبنية الأمنية السائدة في الخليج الفارسي يكمن في إهمالها لبعض التهديدات الأمنية الأكثر انتشاراً في المنطقة، والمبالغة في تهديدات أخرى لأسباب سياسية وأيديولوجية على ما يبدو. بالنسبة لكثير من دول مجلس التعاون، قبل الغزو الأمريكي واحتلال العراق عام 2003، انبثقت التهديدات الإقليمية من دولتين هما إيران والعراق. وقد أدى التقارب بين أولويات النخب السياسية المحلية وأهداف السياسة الأمريكية إلى إهمال تلك التهديدات الأمنية الناجمة عن الاقتصادات السياسية لدول مجلس التعاون. بدلاً من ذلك، كانت هناك افتراضات مبالغ فيها حول طموحات الهيمنة الإيرانية ونواياها الخبيثة لاستخدام السكان الشيعة المحليين كطابور خامس. بعبارات بسيطة، لا تعالج الترتيبات الأمنية الحالية في الخليج الفارسي التهديدات الأمنية إلا جزئياً، وبالذات التهديدات المتصورة الصادرة من ايران والعراق ضد المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الأصغر، بينما يتم تجاهل التحديات الهيكلية ذات الجذور الأكثر عمقاً والكامنة في الاقتصادات السياسية الإقليمية.

 

التحديات الأمنية السائدة

يمكن تقسيم التحديات الأمنية التي تواجه الخليج الفارسي بصفة عامة إلى ثلاث فئات مترابطة. التحديات الأمنية الأكثر تقليدية التي تدور حول التوازن الإقليمي والدولي لديناميات القوة؛ والتحديات الأمنية الأحدث، والتي تنشأ من مستويات أعلى من العولمة والتنمية الاقتصادية؛ والتحديات الأمنية التي تكمن جذورها في الاقتصادات السياسية المحلية والإقليمية.

شهدت منطقة الخليج الفارسي بعضاً من أعنف الصراعات في القرنين العشرين والحادي والعشرين حتى الآن، نتيجة لكونها منطقة استراتيجية لها حصة معتبرة من المنافسة الدولية والتوترات العابرة للحدود. والمخاوف الأمنية التي تنشأ نتيجة لذلك تدور بوجه عام حول اعتبارات موازين القوى، والمنافسات الإقليمية، وعدم الاستقرار المحلي والإقليمي. لقد كان الخليج الفارسي أرضاً خصبة للتعدد ولتداخل التسابق والمنافسات، التي امتد كثير منها، في هذا الوقت أو ذاك، إلى صراع مفتوح. وتدور أبرز أمثلة هذه التوترات الإقليمية حول موقف إيران “الثوري” المفترض تجاه جيرانها العرب، وحول سياسات العراق في تسعينات القرن الماضي وأصداء حربه الأهلية منذ أوائل هذا القرن، وحول السكان الشيعة المضطربين في البحرين والمملكة العربية السعودية، وكذلك حول المنافسات السعودية – القطرية، وسياسات الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط وخصوصاً في ما يتعلق بقواعدها العسكرية الموجودة حتى الآن في المنطقة. وستظل هذه المنافسات حول موازين القوى تطرح تحديات لأمن الخليج الفارسي في المستقبل المنظور.

الفئة الثانية من المخاوف الأمنية تدور حول تحديات أحدث وأقل تقليدية، نشأت في الغالب نتيجة لارتباط الخليج الفارسي بشكل أكثر وثوقاً مع اقتصاد السوق العالمي. هذه المخاوف الأمنية الأخيرة، وكثير منها جاء نتيجة للتنمية والنمو الاقتصادي الهائل الذي شهدته المنطقة خلال العقود الأخيرة، تدور حول قضايا مثل الأمن الغذائي وضمان الحصول على الإمدادات الغذائية دون انقطاع، وأمن الإنترنت، وقضية العمال المهاجرين، سواء من ذوي الياقات البيضاء أو الزرقاء، وحماية الهويات والاستحقاقات الوطنية في مواجهة الوافدين الذين تتزايد أعدادهم أكثر من أي وقت مضى في بلدان مثل قطر والإمارات العربية المتحدة والكويت وحتى البحرين والمملكة العربية السعودية.

تحتل هاتان الفئتان من التحديات الأمنية مكاناً بارزاً في حسابات صناع القرار في المنطقة كما في واشنطن وأماكن أخرى. ولا تزال كلتاهما حتى الآن، إلى هذا الحد أو ذاك، موضع اهتمام وقلق، سواء للحسابات المحلية والإقليمية أو لسياسات القوة. غير أن المخاوف الأمنية الأكثر تقليدية، والتي ترتكز على ديناميات موازين القوى الإقليمية، تبدو أكثر رسوخاً في العمق وتعتمد على  الديناميات العالمية الأكبر كما على الديناميات الإقليمية، وبالتالي تعوّل دائماً على الولايات المتحدة، وبدرجة أقل، على بريطانيا وبقية دول الاتحاد الأوروبي.

الفئة الثالثة من التحديات الأمنية تنشأ من الاقتصادات السياسية المحلية والإقليمية، ولاسيما عندما يدور الحديث عن دول مجلس التعاون. وتبرز في هذه الفئة ثلاثة تحديات أمنية محددة، وتتداخل التحديات الثلاثة مع التحديات الأخرى السابق ذكرها. التحدي الأول متعلق بأمن الطاقة، سواء من حيث تدفقها دون انقطاع ووصولها إلى طرق النقل المفتوحة، أو عندما يتعلق الأمر بالغاز الصخري. ولأمن الطاقة معاني مختلفة للجهات الفاعلة المختلفة. فهو بالنسبة للغرب يعني “توافر إمدادات كافية بأسعار معقولة”، بينما يعني لمصدري الطاقة “أمن الطلب”. وتأتي الأهمية الاستراتيجية الفائقة للخليج العربي من الاحتياطات الغنية من النفط والغاز. ومع مضيق هرمز باعتباره ممراً محتملاً، ومع التهديد المحتمل للصراع الإقليمي القائم في أي وقت- بين إيران وإسرائيل على سبيل المثال- تظل مسألة تدفق إمدادات النفط والغاز من الخليج الفارسي إلى المستوردين في أوروبا وشرق آسيا مصدر قلق أمني كبير. يرتبط بذلك التقدمُ في البحث عن مصادر بديلة للطاقة، وخاصة الغاز الصخري، الذي وجدت بعض احتياطاته الغنية في الصين، والولايات المتحدة، وكندا (وكذلك في الأرجنتين والجزائر والمكسيك). وعلى الرغم من أن الغاز الصخري لا يشكل بعدُ تحدياً خطيراً للمنتجين في تجارة النفط والغاز الطبيعي العالمية، وخاصة لقطر وإيران وروسيا، فإن الإمكانات التجارية لهذا المنتَج يمكن أن تكون كبيرة في المستقبل، مما يشكل قلقاً جدياً لبلدان الخليج الفارسي.

ينشأ التحدي الأمني ​​الثاني من عواقب وجود دول انهارت في المناطق القريبة من الخليج الفارسي. فمنذ مطلع الألفية الثالثة، أصبحت دولتا العراق وأفغانستان المنهارتان مرتعاً خصباً للمتشددين الجهاديين الذي كان تركيزهم عابراً للوطنية بقدر ما كان وطنياً. ومع ذلك، ظلت الفوضى التي شهدها هذان البلدن، على العموم، داخل حدودهما. وفي العقد الحالي، مع إعادة تشكيل الدولة في كل من العراق وأفغانستان، حيث لم تتمكن الدولتان حتى الآن من فرض القانون والنظام بأي طريقة مجدية، هناك إمكانية لانهيار دول أخرى كاليمن وسورية. وفي ضوء المشاركة القوية من المملكة العربية السعودية وقطر في الأزمة السورية، وطبيعة الحدود السعودية اليمنية القابلة للاختراق على الرغم من بناء المملكة العربية السعودية حاجزاً أمنياً بين البلدين، لا تزال تداعيات الانهيار المحتمل للدولة في سورية واليمن تمثل إشكالية خاصة بالنسبة للخليج العربي.

التحدي الأمني ​​الثالث له علاقة بالتصدعات المحتملة في المساومات الريعية التي تعتمد عليها دول الخليج لتثبيت  الحكم واكتساب الشرعية السياسية. وبعض دول مجلس التعاون الأقل ثراء عرضة بشكل خاص لمثل تلك التصدعات. فالكويت والإمارات العربية المتحدة وقطر تمتلك موارد مالية ضخمة مع عدد قليل نسبياً من المواطنين، وبالتالي من غير المرجح أن تواجه صفقاتها الريعية الواسعة تحديات خطيرة في المستقبل المنظور. أما المملكة العربية السعودية والبحرين وسلطنة عمان، حيث إيرادات الدولة للفرد الواحد ليست بذلك الاتساع، فهي أميل إلى أن تكون أقل استعداداً للتعامل مع التقلبات في عائدات النفط أو مع الاضطرابات الاقتصادية والسياسية الأخرى. فالاضطرابات الواسعة النطاق في البحرين، والاحتجاجات المنتشرة في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية، وحالات القلق في سلطنة عمان هي بالفعل مؤشرات على أن جهود هذه الدول في شراء الشرعية السياسية من خلال السخاء المالي والاقتصادي لا تحقق نجاحاً شاملاً. ففي كل حالة من تلك الحالات استجابت الدولة بمزيج من تعزيز الاستبداد من جهة، وتوسيع نطاق الريعية من جهة أخرى. ومع ذلك، وكما أثبتت أحداث ما بعد 2011 بوجه خاص، فإن إمكانية عدم الاستقرار السياسي في دول مجلس التعاون ليست مستبعدة كلياً.

في منتصف العقد الماضي، حذر مراقب في المنطقة من أن التحدي الأكبر الذي يواجه دول مجلس التعاون ليس إيران نووية بل التغييرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الداخلية التي لم يعد قادةُ تلك الدول قادرين على التحكم بها. وبشكل أكثر تحديداً، فإن “التهديد الأكبر” الذي يواجه دول مجلس التعاون ليس أسلحة الدمار الشامل بل تفتت السعودية، وعواقب امتداد الحرب الأهلية العراقية، وانتشار الجهادية المتطرفة والعنيفة.

واليوم، ومع استمرار أصداء عدم الاستقرار السياسي في العراق، والحرب الأهلية السورية، ومع تورط شباب سعوديين وغيرهم من الشباب العرب في الحرب الأهلية السورية وفي تنظيم القاعدة، تتفاقم المشكلة المطروحة. فضلاً عن ذلك، وعلى الرغم من أن التواجد الأمريكي في المنطقة قد يكون مريحاً لزعماء دول الخليج، فإن هذا التواجد غير مرحب به على نطاق واسع من قبل مواطني تلك الدول، بل هو في الواقع يثير الاستياء في كثير من الأحيان. وقد أظهرت بوينو دي مسكيتا أن هناك نوعاً من الترابط الإيجابي بين التهديدات المتصورة للإسلام ودعم الإرهاب، وأن أولئك الذين يرون أن مثل تلك التهديدات تأتي من الولايات المتحدة هم، بوجه خاص، الذين يحتمل أن يدعموا الارهاب والهجمات على أهداف أمريكية. إن بنية أمن الخليج الفارسي الحالية لا تفشل في معالجة العديد من التهديدات الأمنية الفعلية التي تواجهها المنطقة فحسب، بل قد تؤدي في الواقع إلى تفاقمها.

لقد واصل الاهتمام الأكاديمي بأمن الخليج الفارسي التركيز على المفاهيم التقليدية للتهديدات الأمنية المنبثقة من إيران أو العراق بمحصلتها الصفرية، أو على دور الولايات المتحدة. ولم يكن هناك سوى استكشاف محدود للقضايا الهيكلية الأعمق التي تهدد المنطقة. في هذا السياق، يطلق مركز الدراسات الدولية والإقليمية في العام الدراسي 2014-2015 مبادرة بحثية جديدة حول “ديناميات الأمن المتغيرة في الخليج الفارسي”. ويهدف المشروع إلى تفحص الوسائل التي تتطور بها التهديداتُ الأمنية المحلية في المنطقة، وكيف يتم تعزيز التحديات الجديدة المتعلقة بالأمن البشري نتيجة للتهديدات العسكرية الصادرة عن الجهات الإقليمية والخارجية الفاعلة -والتي تحل محلها عملياً على نحو ما-. ويستقطب هذا المشروع عدداً من الباحثين المرموقين لدراسة مجموعة متنوعة من المواضيع ذات الصلة. وستشمل بعض تلك المواضيع ما يلي: 

  • تطور ديناميات الأمن السائدة في الخليج الفارسي؛
  • وجود أمن للطاقة أو عدم وجوده؛
  • تهديدات الأمن البشري في المنطقة، بما في ذلك الأمن الغذائي والأمن الديموغرافي والسكاني الداخلي، والتحديات التي تواجه الهويات المحلية، ومدى استدامة المساومات المحلية التي تمارسها السلطات الحاكمة؛
  • ضعف الدولة والجهادية الناشئة في اليمن وشبه الجزيرة العربية.

 

كتب المقال الدكتور مهران كمرافا، مدير مركز الدراسات الدولية والإقليمية