خلفية المشروع ونطاقه

خلفية المشروع ونطاقه

لقد جذبت ناطحاتُ السحاب، ومعدلات التحضر العالية، ومشاريع التنمية الضخمة في الخليج، اهتماماً متزايداً من الباحثين والممارسين في مجال التنمية الحضرية. فاليوم، يعيش نحو 88 بالمئة من مجموع سكان دول مجلس التعاون في المدن، بينما يعيش، وسطياً، نحو ​​56 بالمئة فقط من سكان اليمن والعراق وإيران في الأماكن الحضرية. ذلك أن وتيرة التحضر وخصائصه المكانية في الخليج تختلف اختلافاً بيناً عن أنماط التحضر التقليدي في البلدان النامية الأخرى. ففي غضون عقود قليلة، تطورت المدن الساحلية  في الخليج تطوراً سريعاً من مراكز إقليمية للتبادل الثقافي والاقتصادي إلى مدن معولمة راسخة الجذور في الاقتصاد العالمي. والمعالم الواضحة للعيان في مدن الخليج، مثل سلاسل الفنادق الدولية ومراكز التسوق والمجمعات الترفيهية، جعلت هذه المدن تصنّف كمراكز للاستهلاك. كما أن الأنشطة الحضرية الأخرى، مثل مراكز المعارض والمؤتمرات، ومدن الإعلام والمعرفة، وفروع بعض الجامعات الغربية، قد أَدمجت مدنَ الخليج في إطار عدد من الأنشطة العالمية.

ومنذ اكتشاف النفط حتى يومنا هذا، عززت قوى العولمة الاقتصادية، والهجرة، والتصورات الوطنية حول المواطنة، والهياكل السياسية والاقتصادية المختلفة، مجتمعةً، سياساتِ التخطيط والتنمية الحضرية. وبينما وجّه التحضرُ والتحديث المرتبطان بالنفط كثيراً من المنح الدراسية حول مدن الخليج، فقد اقتصر فهم تطور المشهد الحضري في مواجهة الخلفية الاجتماعية والثقافية على المؤلفات الأكاديمية. وعلى سبيل المثال، وَجهت العلاقةُ المتداخلة بين المواطنين والمغتربين والدولة في دول مجلس التعاون، إلى حد كبير، الرؤية والتخطيط بشأن المشاريع الحضرية والعقارية الضخمة. فهذه المشاريع تعكس الدور المتعاظم للمغتربين كمستهلكين ومستخدمين للحيز الحضري، وليس كمجرد مصادر لقوة العمل المستخدمة في بناء المدن. والمبادرات الحكومية الأخرى، مثل بناء مشروعات عملاقة للتراث الثقافي في مختلف مدن الخليج، تكشف عن محاولات الدولة لاستعادة أجزاء من المدينة للمواطنين المحليين في خضم هذا العدد المتزايد من سكان الحضر الوافدين.

ويبدو الفصل المكاني والزماني واضحاً في المساحات المنفصلة والمخصخصة تماماً في المدن الخليجية. وكجزء من حملة الدولة لخلق اقتصاديات المعرفة، تنقل مؤسساتُ التعليم العالي الدولية إلى مدن الخليج ديناميات اجتماعية أوسع نطاقاً مثل التنضيد الاجتماعي، والهوية الوطنية، والمواطنة، كآليات متصلة بإنشاء اقتصاديات المعرفة. وتنبئنا المناطق السكنية، بدءاً من الأحياء التقليدية حتى المجمعات السكنية الكبيرة ذات المدخل الموحد، عن العملية الاجتماعية- المكانية العابرة للحدود الوطنية داخل مدن الخليج ، فضلا عن إحساس الساكنين بهويتهم في كلٍ من تجمعاتهم السكنية. وبالإضافة إلى القضايا المتعلقة بالطبقة والجنسية والهوية، تعدّ المسائل الخاصة بالنوع الاجتماعي والتنقل داخل المدينة، حيوية لفهم التحضر في المجتمعات الخليجية في ضوء اختلال توازنها الديموغرافي.

يعدّ الاقتصاد السياسي للتنمية الحضرية مجالاً جديداً لدراسة المدن الخليجية عن طريق المنح الدراسية. وعلى سبيل المثال ، يدل التصميمُ المعماري المذهل للمشروعات العملاقة المستندة إلى التراث الثقافي على الكونية المتعاظمة لمدن الخليج الهادفة لتلبية احتياجات الجماهير العالمية. ومن الأمور التي تستدعي اهتماماً خاصاً، ذلك المدى الذي تذهب فيه الدولة لإشراك مستشارين دوليين مع المخططين والمهندسين المعماريين المحليين في بناء مشاريع من التراث العالمي، ترسخ الهوية الوطنية والعابرة للوطنية على حد سواء.

ويمكن لبعض المواقع الأخرى في المدينة، مثل وجود واستخدام الأماكن العامة في المشهد الحضري ، أن تساعد في فهم عمليات التفاعل الاجتماعي وشكل السلطة ووظيفتها في المدينة. فبعض الأماكن، مثل دوار اللؤلؤة في البحرين ، أصبحت مواقع رمزية للمنافسة السياسية. وتسعى مواقع أخرى أقل تعبيراً عن ملامح مدن الخليج على ما يبدو ، كالاسواق التقليدية، إلى إعادة ابتكار الأشكال التقليدية للتحضر من خلال التوفيق بين الثقافة وإنشاء الأماكن العامة.

وبالإضافة إلى مشاريع التنمية والتكوينات المكانية المخططة للمدن الخليجية، يتيح عدم التماسك السياسي والاقتصادي نشوءَ أحياء سكنية غير منظمة. وقد يوفر التركيز الأكاديمي على هذه المناطق غير المخططة رؤية أكثر شمولا للمدينة، ولكيفية تشكُّل التواصل بين الجنسيات المختلفة، وقدرة سكان المدينةعلى المشاركة في تشكيل فضاء مدينتهم من حيث الشكل والوظيفة.

إن تنوع التكوينات التاريخية والجغرافية والسياسية والاجتماعية- الاقتصادية في أنحاء المنطقة يستلزم دراسة مدن الخليج في هذه السياقات وبالعلاقة مع مسار التنمية الحضرية فيها. فالشبكات الحضرية المعقدة في مدن مثل الرياض وجدة ومسقط وصنعاء وبندر عباس وبغداد تكشف عن شعور بالاستمرارية التاريخية والثقافية يختلف عنه في عواصم مثل الدوحة ومدينة الكويت ودبي. ودراسة المشهد الحضري للمدن الخليجية، كل في سياقها الخاص وضمن منظور مقارن، يفتح آفاقاً لرؤية إضافية حول السياقات السياسية والثقافية والاجتماعية- الاقتصادية التي شكّلت التحضرَ في المنطقة.

تماشيا مع ذلك، ستبحث المبادرة البحثية لمركز الدراسات الدولية والإقليمية الموسومة بـ ” تطور المدن العالمية في الخليج” ديناميات التكوينات الحضرية في منطقة الخليج (دول مجلس التعاون واليمن والعراق وإيران) بهدف فهم المدينة بوصفها فضاء ثقافياً واجتماعياً. ومن خلال مشاركة باحثي علم الاجتماع الحضري والجغرافيين الاجتماعيين وعلماء السياسة ومخططي المدن  والمهندسين المعماريين، يربط هذا المشروع البحثي متعدد التخصصات المعرفة على المستوى الكلي لمشاريع التحضر والتحديث في الخليج، مع فهم مجال الحياة اليومية والتفاعل البشري على المستوى الجزئي. 

كتب المقال دعاء عثمان، محللة البحوث في مركز الدراسات الدولية والإقليمية