خلفية المشروع ونطاقه

خلفية المشروع ونطاقه

أطلق مركز الدراسات الدولية والإقليمية بالاشتراك مع معهد ستوني بروك للدراسات العالمية مبادرة بحثية جديدة حول أقاليم العالم وحضاراته. والتكامل بين النظرية الاجتماعية والدراسات الإقليمية هو مشروع كبير من مشاريع معهد ستوني، وقد نُشر المجلد الريادي في هذا الموضوع الموسوم بـ” النظرية الاجتماعية والدراسات الإقليمية في عصر العولمة”، للتو في مطبوعة المعهد: “بانجايا II: الدراسات المحلية/ العالمية، منشورات جامعة ولاية نيويورك”. وقدم هذا المجلد تحليلاً واعداً للحداثة في الحضارات المتعددة، وأفرد في غضون ذلك مفهومين لمزيد من التحليل: أقاليم العالم والوحدة الإقليمية من جهة، والمؤسسات الحضارية للسلطة والجغرافيا السياسية للتقسيمات الإقليمية، من جهة أخرى.

ومفهوم “إقليم” أو “إقليم من أقاليم العالم”، مثله في ذلك مثل مفهوم الأديان والحضارات العالمية، يشير إلى وحدات متكاملة فضفاضة هي أقل من مجتمع عالمي لكنها مع ذلك تتجاوز المجتمع والدولة القومية. بهذا المعنى يمكننا أن نتحدث عن مسارات إقليمية للتطوير والتحديث، وحتى عن أصناف من الرأسمالية الإقليمية، لكل منها ثقافة متميزة للرأسمالية. إن بناء الهويات الإقليمية هو عملية عالمية وتاريخية وتفاعلية تكونت في حركيتها، وهو بدوره أعاد تشكيل نمط التوجهات الإقليمية التي تلت الأحداث التاريخية الكبرى في العالم مثل الغزو المغولي والحرب العالمية الثانية. وبما أن الهوية الجماعية متعددة وغير محددة، فإن الأقاليم التي شُكلت على أساسها يمكن أن تكون متداخلة ومتحولة.

في المقالات الكلاسيكية المتعلقة بالجغرافيا السياسية في السنوات الأولى من القرن العشرين، وضع كل من راتزل “المجال الحيوي” (1901) وماكيندر “المحور الجغرافي للتاريخ” (1904)، جغرافية أقاليم العالم في مركز العلوم السياسية. وفي عام 1916 اقترح رضاكمال موكيرجي “الإقليم” كوحدة مناسبة للتحليل في كتابه ” أسس الاقتصاد الهندي”. وبعد ذلك بعام “شدد على الحاجة الماسة إلى الاقتصاد الإقليمي” كأساس لـ”الاقتصاد العام”. وبما أن الإقليم كان، بالنسبة لموكرجي، مجمعاً جغرافياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، فقد شرع في العقود التالية بالانتقال من الاقتصاد الإقليمي إلى علم الاجتماع المقارن، ونشر “علم الاجتماع الإقليمي” (1926) و”التوازن الإقليمي للإنسان: نظرية بيئية للسكان” (1938). وقد عرض تصوره السوسيولوجي للإقليم على أنه المجال الحيوي للتفاعل بين البيئة والثقافة. الإقليم هو إذن “تكوين”، هو شبكة معقدة من العلاقات المتبادلة. تحت تأثير العولمة، وبعد نحو ثلاثة أرباع القرن، عاد التعامل مع أقاليم العالم مرة أخرى إلى جدول أعمال النظرية الاجتماعية الحضرية. وتعد أعمال بيتر كاتزنشتاين من أبرز الشروح الحديثة لمفهوم أقاليم العالم كنظام مؤسسي للتدخل بين الدول القومية المعمِّرة والمجتمع العالمي الذي يتطور بنشاط.

شكّل كتاب صموئيل هنتنغتون “صدام الحضارات” (1996) محاولة هامة لتسليط الضوء على الصلة الوثيقة بين الثقافة والسلطة في الجغرافيا السياسية، وكان جوهر أطروحته أن نهاية نظام القطبين العالميين قد أحلت صدام الحضارات محل صراع الأيديولوجيات. على النقيض من ذلك، قال بيتر كاتزنشتاين في كتابه “عالم من الأقاليم، آسيا وأوروبا في الامبريالية الأمريكية” (2005)، أنه مع انهيار الشيوعية، وتفكك الاتحاد السوفياتي (ما سمي العالم الثاني)، وما صاحب ذلك من اختفاء للعالم الثالث، تغيرت ساحة السياسة العالمية من الكتلتين القطبين إلى أنظمة إقليمية جديدة متفاوتة إلى حد كبير من حيث التماسك الثقافي والتكامل الاقتصادي والهياكل المؤسسية القانونية والسياسية. ويعترف كلا المؤلفين أن حضارات العالم وأقاليمه موجودة قبل وقت طويل من نصف القرن الذي ساد فيه النظامُ العالمي ثنائي القطبية، وكلاهما يبرز الاختلافات بين أقاليم العالم ومناطقه الحضارية، ويتحدى فرضية زيادة التقارب والتحديث الموحد في عالم الدول القومية.

كان سوء الفهم الأساسي لدى هنتنغتون يكمن في تعامله مع الحضارات باعتبارها كيانات متجانسة وثابتة، بينما هي في الواقع قابلة للاختراق وفي تفاعل مستمر. ولدى أقاليم العالم، كالحضارات، مسار تاريخي بمكونات متغيرة من العناصر التي تتكامل بشكل فضفاض، وهي أيضاً متفاعلة وقابلة للاختراق. علاوة على ذلك، فإن نشوء الأقاليم وتراجعها غالباً ما يرتبط مع صعود الحضارات وتراجعها، ومع صعود الامبراطوريات وسقوطها وتشكّل الدول التي تلي ذلك السقوط، ومع التوسع والانكماش في الأسواق والتجارة الدولية. ومن الأمثلة على الأفاليم التي هي في المقام الأول مناطق حضارية، الحضارة الهلنستية، والمدينة العالمية السنسكريتية (400-1400)؛ و العالم الفارسي (900-1900) (باستخدام مفهوم شيلدون بولوك الموفق)؛ ومن الأمثلة على أقاليم عالمية أنشأتها الإمبراطوريات، الصين والإمبراطورية الرومانية حول ماري نوسترا (البحر المتوسط)، والإمبراطوريتان الاستعماريتان البريطانية والفرنسية في آسيا وأفريقيا، وآخر تلك الأمثلة مجتمع شمال الأطلسي. ومن أمثلة الأقاليم التي تشكلت بدوافع اقتصادية، الاتحاد الأوروبي الذي انبثق عن المجموعة الأوروبية للفحم والصلب والسوق المشتركة.

كان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، كأحد أقاليم العالم، مهد الحضارات والإمبراطوريات والديانات الإبراهيمية. وهو يعدّ، من هذا المنطلق، إقليماً مناسباً لدراسة فكرة الإقليم من منظور مقارن، وتكونه خلال  صيرورة تاريخية وحضارية ودينية، وللفهم المقارن للشرعية الإسلامية ولتحولات القوة فيه. مع الاهتمام الواضح بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يشترك  مركز الدراسات الدولية والإقليمية مع معهد ستوني بروك للدراسات العالمية في هذا الميدان من البحث، ويرحب بهذه الفرصة لجمع المؤسستين معاً للعمل على هذه المبادرة البحثية.

في قمة الحضارة الإسلامية عام 765، بنى الخليفة العباسي المنصور “مدينة السلام”، المعروفة باسمها الفارسي السابق بغداد (هبة الله)، في مركز ما سمّاه العالم المتحضر. وقد أشار المؤرخون والجغرافيون المسلمون في العصور الوسطى إلى إقليمنا باسم “منتصف الأرض/ العالم”، غير أن المصطلحات الأكثر شيوعا كانت” المغرب والمشرق”، ويمكن استخدام “منتصف المشرق” للإشارة إلى خراسان وبلاد ماوراء النهر. أما مصطلحات مثل “الشرق الأدنى” و “الشرق الأوسط” فقد اكتسبت شهرتها في سياق ما سمي “المسألة الشرقية”، التي كانت مسألة التفكك البطيء للإمبراطورية العثمانية في الحقبة الأخيرة من القرن التاسع عشر. وهناك ميل لضم البلقان ضمن هذه المصطلحات، ولاسيما مصطلح “المسألة الشرقية”. واكتسب مصطلحا ” الشرق الأدنى” و ” الشرق الأوسط” شهرتهما في أوائل القرن العشرين. أما فكرة العالم العربي (كمقابل لدار الإسلام) فلا تزال أكثر حداثة، وقد أمكن ظهورها فقط ككيان سياسي جغرافي بعد تفكك الإمبراطورية العثمانية، واكتسبت المزيد من الانتشار بعد إنشاء دولة إسرائيل.

من بين الموضوعات الأخرى التي يتعين معالجتها خلال هذه المبادرة البحثية:

  • مقاربة بانغايان لأقاليم العالم
  • الحضارة الإسلامية والعالم الفارسي  
  • العالم الإسلامي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجنوب آسيا قبل الإمبراطوريات المستعمرة والدول القومية
  • العالم العربي والشرق الأوسط كإقليمين متداخلين من أقاليم العالم
  • الشرق الأوسط ونظرية العلاقات الدولية
  • أوراسيا الوسطى كأقليم من أقاليم العالم