محاكمات محمد مرسي العديدة
تحول القضاء المصري إلى وسيلة أكيدة للإصابة بالجنون، حيث أصدرت إحدى المحاكم المصرية الأسبوع الماضي حكما بالسجن عشرين عاما ضد الرئيس المصري السابق محمد مرسي وأربعة عشر آخرين، لدورهم في احتجاز وتعذيب متظاهرين خارج قصر الاتحادية من قبل عدد من أنصار جماعة الإخوان المسلمين في ديسمبر 2012، فيما يعد أول إدانة وحكم قضائي يصدر بحق الرئيس السابق، الذي تنتظره سلسلة طويلة من المحاكمات، وقائمة أطول من الاتهامات. يهدف هذا الحكم إلى إنهاء حالة الاضطراب السياسي التي تجتاح البلاد منذ الانقلاب العسكري.
في السياق ذاته، تواصل المؤسسة العسكرية جهودها السافرة – منذ قيامها بالإطاحة بمرسي واستعادة هيمنتها على مقاليد حكم الدولة المصرية في يوليو 2013 – من أجل تزييف التاريخ وإعادة كتابة الأحداث التي مرت بالبلاد على مدار السنوات الأربع الماضية. وفي حال نجاح هذه المؤسسة في تصدير نسختها بشأن هذه الأحداث، فإن هذا يعني أن “الثورة” الوحيدة التي شهدتها البلاد لم تكن في حقيقتها إلا ثورة لتأكيد سيادة مؤسسات الدولة على قوى الفوضى والعنف التي سعت إلى نشر الإرهاب وزعزعة أمن واستقرار البلاد! وأن الفترة الانتقالية التي أعقبت سقوط مبارك – بكل ما شهدته من تعبئة شعبية وانتخابات حرة – لم تكن، بدورها أيضا، أكثر من انحرافا يسيرا وعابرا عن مسار استرداد المؤسسة العسكرية مقاليد السلطة على يد الجنرال عبد الفتاح السيسي، قائد المؤسسة، والمخلص الافتراضي للدولة المصرية، وأن الدور الرئيسي الذي حاولت جماعة الإخوان المسلمين – الخصم التاريخي لأنظمة الحكم العسكري في مصر – القيام به خلال الفترة الانتقالية تحول لخدمة الرواية الجديدة القديمة عن خطر الإرهاب والاستبداد الديني الذي يواجهه المصريون.
فرض سقوط مبارك المفاجئ عام 2011 على يد الثورة الشعبية التدخل العنيف من قبل بعض مؤسسات الدولة المصرية لمواجهة اللحظات الحرجة التي شهدتها البلاد في حقبة ما بعد مبارك، مما ساعد مؤسسات الدولة والقنوات الإعلامية الخاصة الموالية للنظام القديم على خلق مناخ معاد لكافة خصومهم السياسيين، ومهد الطريق لحالة القبول الجماعي لعنف الدولة الشامل من خلال عمليات التحريض المستمرة التي مارستها ضد مرسي ومؤيديه.
كما نجحت المؤسسة العسكرية في اختيار اللحظة المناسبة للتدخل لإزاحة مرسي عن الحكم، وممارسة عمليات اعتقال على نطاق واسع ضد كافة المعارضين – بدءا من الإسلاميين، ووصولا إلى الناشطين من كافة الأطياف السياسية – تمخضت عن أكثر من 41 ألف مصري لا يزالون رهن الاحتجاز على خلفية اتهامات سياسية. لم يتوقف نجاح المؤسسة العسكرية عند هذه الحدود، بل تجاوزها إلى استعادة ثقافة الخوف من خلال استخدامها الاستراتيجي (رغم كل ما يتسم به من عشوائية) للعنف أثناء عمليات فض اعتصام رابعة العدوية، وفي عدد من الحوادث الأخرى، منذ مذبحة أغسطس 2013.
لم تكن المؤسسة القضائية أقل ضلوعا من المؤسسة العسكرية في هذه الأحداث، فقد برهنت كافة الأحكام الصادرة عنها منذ المرحلة الانتقالية التي أعقبت سقوط مبارك – والتي تضمنت الحكم بحل أول مجلس شعب منتخب ديمقراطيا وأحكام البراءة بحق كافة المسؤولين المحسوبين على نظام مبارك – أن جميع محاولات التغيير التي سعت إليها الثورة ستبوء بالفشل.
مضت المؤسسة القضائية أبعد من ذلك في مرحلة إعادة الاصطفاف التي تلت الانقلاب العسكري، حيث تدخلت لشرعنة تعسف وعنف الإجراءات التي اتخذتها المؤسسة العسكرية وصبغها بالصبغة القانونية. ورغم اعتبار المراقبين الدوليين ومنظمات حقوق الإنسان أن المحاولات التي يبذلها القضاء المصري لتقديم غطاء قانوني لانتهاكاته الصارخة مثيرة للضحك، إلا أن هذه المحاولات، التي سعت بالأساس لترسيخ سطوة الدولة وإحكام قبضتها على مواطنيها، كانت من أجل الاستهلاك المحلي أكثر منها للحصول على اعتراف دولي بشرعيتها.
بعد ثلاثة شهور من حظر المؤسسة العسكرية لجماعة الإخوان المسلمين من خلال عمليات الاعتقال ومصادرة الممتلكات والقتل الجماعي لمؤيديها، أصدرت إحدى المحاكم المصرية حكما يقضي بحظر الجماعة. كما استمرت المؤسسة القضائية في المحاكمات التالية لمرسي وقادة جماعة الإخوان المسلمين في توفير الغطاء القانوني للانقلاب العسكري وشرعنة النظام الجديد.
وفي سياق دحض التقارير الخاصة باحتجاز مرسي بطريقة غير قانونية في مكان غير معلوم بعد الإطاحة به، كشفت تسريبات لبعض المسؤولين نهاية العام الماضي أن نظام السيسي حاول إخفاء هذا الإجراء بإعلان أحد المنشآت العسكرية سجنا تابعا للدولة عن طريق وضع لافتة جديدة وأسلاك حول المبنى، مما سوغ للقضاة رفض الطلبات المقدمة من محاميي الدفاع بإطلاق صراح مرسي بعد إلقاء القبض عليه واعتقاله بصورة غير قانونية.
في الإطار ذاته، تزامنت الإدانة الأخيرة بحق مرسي مع قرب انتهاء المدة القانونية لاحتجازه دون إدانته في أي جريمة، مما دفع منظمة هيومان رايتس ووتش – في تقريرها الصادر بهذا الشأن ـ إلى إدانة هذه المحاكمة، واعتبارها محاكمة سياسية، مؤكدة أن “النيابة العامة لم تثبت إدانته الجنائية في هذه الحالة.”
إن هذه المحاكمات الصورية – كما أكدت سائر المحاكمات التي أصدرت أحكاما بالإعدام الجماعي بحق مئات المتهمين – غير معنية بإثبات الإدانة من خلال الأدلة، بقدر عنايتها بتصدير إجراءات وهمية.
لذا، فإن القضايا المتبقية لا تمثل إتهامات حقيقية بشأن الإجراءات التي اتخذها مرسي إبان وجوده في السلطة، وإنما تجسد – في الحقيقة – إعلان وفاة اللحظة الثورية التي شهدتها مصر مع الإطاحة بمبارك.
في هذا الإطار، تأتي اتهامات الهروب من السجن أثناء ثورة 2011 على خلفية قيام نظام مبارك باعتقال مرسي وعدد من النشطاء لمنع مشاركتهم في الاحتجاجات التي اندلعت في 25 يناير. إلا أن هذه القضية تتجاوز حدود كل ما هو قانوني، أو حتى معقول في محاولتها لإدانة المسجونين السياسيين بعصر مبارك لأنهم تجرأوا على تحدي الدولة، عندما واجهت هياكلها الأكثر قمعية أكبر تعبئة جماهيرية في التاريخ المصري.
في الشأن ذاته، تلاحق الرئيس مرسي في قضية الجاسوسية، التي تٌعد أكثر القضايا التي يواجهها تسييسا، اتهامات بالتعاون مع قوى معادية أجنبية لتقويض الأمن القومي المصري. وتسعى الاتهامات الموجهة لمرسي في هذه القضية، التي ترتبط أكثر من غيرها بإعادة ترتيب الأوراق الإقليمية للنظام الجديد، إلى دعم نظرية المؤامرة فيما يتعلق بعلاقة جماعة الإخوان المسلمين مع القوى الإقليمية التي يعاديها السيسي، بدءا بقطر وإيران ووصولا إلى حماس وحزب الله، حيث تطلب الدعم الاقتصادي والدبلوماسي اللامحدود، الذي حصل عليه السيسي من بعض الدول الخليجية مثل المملكة العربية السعودية والإمارات، شرعنة التحالفات الجديدة من خلال عمليات إدانة شاملة للعلاقات الإقليمية السابقة التي أقامها مرسي. وفي حالة إدانة مرسي في هذه القضية، فسيواجه عقوبة الإعدام.
كما قامت إحدى المحاكم، من أجل تأكيد سيادتها على رئيس معزول، بتوجيه تهمة “إهانة المحكمة” إلى مرسي، وهي تهمة جنائية تم توجيهها إلى عدد من النشطاء في السنوات الأخيرة في محاولة لإخافة الثوار والمعارضين، حيث ترسل المؤسسة القضائية من خلال توجيه هذه التهمة لأبرز السجناء السياسيين في مصر رسالة لا لبس فيها إلى جميع المحتجين المحتملين بعدم التسامح في حق توجيه أي انتقادات ضد الإجراءات التي تتخذها الدولة.
أخيرا، وفي ذات اليوم، أصدرت المحكمة حكما بالإدانة ضد مرسي في قضية الاتحادية، كما كالت إليه سيلا جديدا من الاتهامات، تتعلق بتحريض المحتجين في اعتصام رابعة العدوية على ممارسة العنف، وتجاهلت المحكمة تماما احتجاز مرسي بمحبسه الانفرادي، وبمعزل عن العالم الخارجي، على مدار الأسابيع الستة التي أقيم خلالها الاعتصام في أعقاب انقلاب 3 يوليو، وأن المحتجين خرجوا إلى الشارع ردا على الإطاحة واعتقال الرئيس من قبل الجيش. وهكذا، ترمي الجهود الأخيرة لتزييف التاريخ وترسيخ حقائق سياسية جديدة في مصر إلى إلصاق تهمة مذبحة رابعة – التي تمثل أكثر المشاهد دموية عن استخدام الدولة للعنف في تاريخ مصر الحديث – بمرسي.
لقد انضوت الفترة القليلة التي قضاها مرسي في سدة الحكم على قدر غير قليل من الغطرسة البغيضة والجمود المستمر والسذاجة السياسية، إلا أن قائمة التهم الجنائية التي يواجهها الرئيس السابق لا تمت بصلة إلى أدائه الحقيقي في إدارة شؤون البلاد وفي كل ما له علاقة بترسيخ الاستبداد الجديد في مصر.
نٌشرت هذه المقالة بموقع قناة الجزيرة في 2 مايو 2015