مقال دعاء عثمان، محللة البحوث في مركز الدراسات الدولية والإقليمية، حول السودان والربيع العربي

مقال دعاء عثمان، محللة البحوث في مركز الدراسات الدولية والإقليمية، حول السودان والربيع العربي

في مطلع عام 2011 وفي خضم الانتفاضات التي هزت العالم العربي، اندفع المتظاهرون في السودان إلى الشوارع وهم يهتفون “تونس، مصر، والسودان قلب واحد”. ولم تعكس الاحتجاجات التي شهدتها السودان والمعترضة على ممارسات القمع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي المماثلة، تلك الموجودة في الدول المجاورة من حيث العدد واستمرار التواجد في الشوارع. وقد ازداد زخم الاحتجاجات في يونيو عام 2012، عقب إعلان الحكومة اتخاذ تدابير تقشف شديدة، حيث احتشد طلاب جامعة الخرطوم في الشوارع وانضم إليهم المئات للتعبير عن ازدرائهم للنظام الحالي. ومع انتشار المظاهرات إلى مدن أخرى لتجتاح أنحاء السودان، رأى البعض أن المتظاهرين قد استوحوا ثورة أكتوبر عام 1964 التي نجحت بالإطاحة بالمجلس العسكري تحت قيادة الجنرال ابراهيم عبود. تمثل الانتفاضات الحالية للمتظاهرين في شوارع السودان، موجات أكثر تراجعاً من الانتفاضات الواسعة والمكثفة التي تشهدها مصر وليبيا وسوريا واليمن، أو الثورات التي اجتاحت السودان في عام 1964 وعام 1985. ولم تترجم شدة الظلم إلى جانب الإلهام الجغرافي والتاريخي للخروج إلى الشوارع، بإزالة سريعة لحزب المؤتمر الوطني بقيادة عمر البشير. وعلى الرغم من أن ثورات عام 1964 و 1985 أطاحت بأنظمة الحكم بنجاح، إلا أنها فشلت في إحداث تأثير إيجابي طويل الأمد على العملية السياسية في السودان، وتوفير استقرار اجتماعي واقتصادي للمواطنين، والحفاظ على الوضع الأمني. وعند إلقاء نظرة أكثر عمقاً على التركيبة السياسية الحالية المشوهة في السودان، إلى جانب إرث الثورات السودانية السابقة، نلاحظ عدم مشاركة معظم المواطنين السودانيين الساخطين سياسياً وترددهم في ركوب موجة الانتفاضات التي هزت المنطقة. ويعزى عجز الانتفاضات في السودان عن تحقيق الزخم المطلوب إلى الوسائل المحدودة التي يستخدمها النشطاء في تعبئة الجماهير، وعدم توفر البديل المحتمل للإطاحة بالنظام القائم حالياً. مع استمرار الربيع العربي في الانتشار في جميع أنحاء المنطقة، ونضال البعض للإطاحة بالأنظمة الحاكمة، ونجاح البعض الآخر في إسقاط أنظمتهم الحاكمة بنجاح، لا يزال المواطنون والمحللون وصناع السياسات والمجتمع الدولي على حد سواء يقيّمون نجاح هذه المظاهرات الحاشدة في تحقيق التغيير السياسي والاجتماعي الثوري. ونظراً لحالة عدم الاستقرار التي تلوح في الأفق في المنطقة في أعقاب الربيع العربي وفشل الثورات السودانية السابقة في تحقيق تغيير جذري، يتردد المواطنون السودانيون الساخطون سياسياً في الخروج إلى الشوارع والمطالبة بإسقاط النظام. وقد تؤدي هشاشة التركيبة السياسية والأمنية في السودان المقترنة بغياب البديل الذي سيقوم بمعالجة المشاكل الاجتماعية والسياسية على المستوى الوطني إلى المزيد من تقسيم البلاد. كان معظم المتظاهرين الذين تمكنوا من الخروج إلى الشوارع والاحتجاج على الإدارة الحالية من الناشطين الشباب من منظمات مثل التغيير الآن و”قرفنا”. وخلافاً لما حدث في مصر وانتفاضات شعبية أخرى في المنطقة، لم يستطع الشباب السوداني حشد قطاعات أخرى من المجتمع بسبب وسائل التعبئة الجماهيرية المحدودة. وتشهد الطبقات الوسطى التي تمثل معظم المتظاهرين في مصر وليبيا تناقصاً في السودان، حيث يهاجر معظمها إلى مناطق أخرى من العالم نظراً لعدم توفر فرص عمل في الوطن. وقد حدّ تقلص الطبقة الوسطى من قدرة النشطاء على الاستفادة من الشريحة المجتمعية الأكثر استعداداً للمشاركة في الاحتجاجات الشعبية والمطالبة بالتغيير الجذري. وخلال ثورة أكتوبر عام 1964 دعت شريحة واسعة من الطبقة الوسطى التي شملت معلمين وأساتذة ومحامين وأطباء ومهندسين وممثلي نقابات عمالية، إلى إضراب مدني عام، وبالتالي إنهاء بقاء عبود في السلطة. ولم يستطع النشطاء الاستفادة بشكل فعال من أدوات تكنولوجيا المعلومات ووسائل التواصل الاجتماعي التي يستخدمها معظم المتظاهرين في جميع أنحاء المنطقة. وقد حد انقطاع التيار الكهربائي المتكرر وانخفاض استخدام الإنترنت في جميع أنحاء البلاد من قدرة النشطاء على حشد الناس بأعداد كبيرة. كما ساهمت الرقابة على الإنترنت لمواقع المعارضة وتعيين فرق العمل المتخصصة-“الجيش الإلكتروني”- من قبل الحكومة في إعاقة التواصل بين الناشطين والمحتجين العاجزين عن تنظيم الاجتماعات والمسيرات، حيث لجأ العديد منهم إلى استخدام الأدوات التقليدية مثل الكتابة على الجدران لإرسال رسائل سياسية إلى أحياء بعيدة داخل العاصمة وفي جميع أنحاء السودان. على الرغم من ذلك كان من الواضح أن تأثير هذه الأدوات التقليدية في تحفيز حركة الاحتجاج كان محدوداً للغاية. وقد ساهمت حملة القمع التي شنتها الحكومة ضد المتظاهرين في ثني العديد من المواطنين عن متابعة المشاركة في المعارضة العلنية. وحد كشف سرية العمليات وحملات الاعتقال والتعذيب التي تعرض لها الصحفيون والأطباء والمحامون، والمجموعات الشبابية من القدرات التنظيمية للنشطاء الذين يشكلون رأس الحربة في هذه الاحتجاجات. ومن المهم أن نلاحظ أنه تم انتهاج التضييق على حقوق المواطنين في التجمع منذ عام 1964 مع تشديد أنظمة الحكم المتعاقبة قبضتها على مؤسسات الدولة، والنقابات والاتحادات الطلابية التي أدت إلى سقوط أنظمة الحكم السابقة. وكانت كمية القوة وأساليب التخويف المستخدمة من قبل النظام الحالي كافية لتقويض الأساس التنظيمي للمتظاهرين، وقد عبر حزب المؤتمر الوطني من خلال الأساليب القمعية التي اتبعها عن انزعاجه من المعارضة وغرَس ثقافة الخوف في أوساط مواطنيها. وفي الوقت نفسه، حرصت الحكومة على عدم صناعة أي “شهداء” خلال الانتفاضات الأخيرة. كما أدى الافتقار إلى موازنة موحدة وقابلة للحياة للنظام الحالي إلى غموض البديل الذي ستطيح من خلاله الانتفاضات الشعبية الحزب الحاكم. ويعتبر البعض أن وجود أحزاب معارضة تقليدية يمثل قاعدة صلبة لتحدي النظام الحالي. وتعد المعارضة التقليدية راسخة بشكل جيد، مع وجود حزبين رئيسيين: حزب الأمة القومي، وحزب المؤتمر الشعبي الاسلامي. وقد وحد هذان الحزبان إلى جانب الحزب الشيوعي السوداني قواهم بموجب ميثاق البديل الديمقراطي والذي يخططون من خلاله لتشكيل حكومة انتقالية بعد الإطاحة بالنظام الحالي. وبحسب الميثاق المذكور ستعمل الحكومة الانتقالية لمدة ثلاث سنوات ريثما تتم صياغة دستور جديد وإجراء الانتخابات. ولا يحبذ النشطاء توحيد قواهم مع أحزاب المعارضة التقليدية حيث لا يرون بأنها جادة في سعيها من أجل التغيير. وتعتبر حقيقة أن ميثاق البديل الديمقراطي الذي تشكل بين أحزاب المعارضة الرئيسية الثلاثة دون إشراك الجمهور إشارة للمواطنين السودانيين الساخطين إلى أن تجاهل صوتهم السياسي سيستمر في حال وصول وصول المعارضة التقليدية إلى السلطة وتشير الدروس المستفادة من الربيع العربي وتجربة السودان الخاصة في عام 1964 و 1985 إلى أن القوى السياسية أو الأحزاب السياسية الأفضل تنظيماً تحصد ثمار ثورة الشعوب بمجرد إسقاط النظام. فقد تبنت الأحزاب السياسية التي اعتلت السلطة بعد ثورتي عام 1964 وعام 1985 أجندات حزبية ضيقة تخدم أغراضها الخاصة. وفي نظام يتأصل فيه الفساد وتملي فيه الرعاية السياسية بقاء النظام، ينظر النشطاء إلى المعارضة على أنها تسعى إلى لفت الانتباه إلى المشهد السياسي- مع تغيير نظام الحكم وليس تغيير آلية النظام ككل. ترددت أحزاب المعارضة في الاستفادة من قاعدة النشطاء والمتظاهرين التي احتشدت ضد النظام. وقد صرح كبار الساسة داخل الأحزاب المعارضة مثل الصادق المهدي من حزب الوحدة الوطنية بأنهم لم يقوموا بحشد المتظاهرين لأنهم يدركون أن الخيار السلمي هو التحول عن طريق التفاوض بين حزب المؤتمر الوطني والجماعات المعارضة التي يشملها ميثاق البديل الديمقراطي. ومن خلال التلميح بشكل مبهم إلى الصدع بين المعارضة التقليدية والحركات الشبابية الناشطة، زعم المهدي أن الطريق الذي يفضله حزبه للتغيير يقوم على أساس الخبرة والمعرفة بـ “قواعد اللعبة”. ونظراً لسيطرة النظام الحاكم على السلطة القضائية والأجهزة الأمنية الواسعة، يتوقع المهدي أن ثورة من قبيل الربيع العربي ستؤدي إلى سفك الدماء. وفي البلدان التي كان للجيش فيها مصلحة في بقاء النظام، كما هو الحال في ليبيا وسورية، تظهر الانتفاضات بطريقة عنيفة ومطولة. أما في ثورات عام 1964 و 1985، التي طالبت بسقوط الحكام العسكريين المستبدين، فقد اتخذ الجيش السوداني موقفاً داعماً للمحتجين لدرجة أنه لعب دوراً حاسماً في إسقاط النظام. وتشكك الجماعات المعارضة في أن يحدث الأمر نفسه الآن. ذلك أن النظام أقحم نفسه داخل جميع المؤسسات وكوّن علاقات رعاية متأصلة، لذا يعتبر أنه من غير المحتمل أن يقف الجيش إلى جانب المتظاهرين. ومن خلال تعبئة جهاز الأمن والمخابرات الوطني والرتب العليا في الجيش بالموالين للنظام، يندمج حزب المؤتمر الوطني بشكل معقد مع جهاز أمن الدولة بأجندته الخاصة وسعيه للبقاء. ويرى نشطاء ومشككون أنه على الرغم من أن الحكومة ما زالت تستثمر بقوة في المؤسسات العسكرية والأمنية، إلا أن شبكات الرعاية التي تدعمها غير مستدامة في المستقبل المنظور. وقد أسهمت الإيرادات المتناقصة للحكومة إلى جانب الصراعات المتزايدة في ولايات دارفور، وحوض النيل الأزرق وجنوب كردفان في الحد من قوة الجيش وتشتته بين مختلف مناطق النزاع. إن التداعيات السياسية للوضع الاقتصادي في السودان تعني أن الحكومة قد تواجه بعض الانشقاقات وتفقد دعم الموالين الرئيسيين نتيجة تضاؤل المنافع المادية من التحالف مع النظام. تضيف التركيبة السياسية المشوهة للدولة المزيد من عدم الاستقرار على الوضع الأمني الهش في السودان. وقد قادت الحكومة الحالية السودان إلى نقطة من الضعف والحرب الأهلية من خلال تهميش الشعب في ولايات دارفور، والنيل الأزرق وجنوب كردفان، الأمر الذي خلق كذلك شعوراً لدى أولئك الذين يعيشون داخل الخرطوم والمراكز الحضرية الأخرى في جميع أنحاء السودان بأنهم أوصياء على الشعب وقوضت أساليب التقسيم والإخضاع التي اتبعها النظام الثقة بين مختلف القبائل والأعراق داخل السودان إلى حد أن العديد من المدنيين يرون أن الحكومة هي المصدر الوحيد للأمن. وفي حين يجب الإطاحة بالنظام من خلال الانتفاضات العفوية، يبقى القلق من أن المشهد السياسي الهش قد يؤدي إلى تفتيت عنيف للسودان، الأمر الذي سيكون إصلاحه شبه مستحيل. ففي أعقاب ثورتي عام 1964 وعام 1985، شهد جنوب السودان تهميشاً متزايداً من قبل الحكومة. ويدق الانفصال الحالي الذي يعاني منه جنوب السودان منذ عام 2011 ناقوس الخطر حول إمكانية تفكيك الدولة في حال استبعاد الجهات المعارضة المهيمنة من المشاركة في الخطاب السياسي في البلاد. وفي سبيل إيجاد بديل وطني والحد من خطر تفكيك الدولة، يعتبر إسقاط النظام، والمشاركة بين المعارضة الرئيسية والميليشيات المعارضة أمراً ضرورياً للغاية. وفي حين يرى المواطنون السودانيون الساخطون سياسياً وضوح مفرزات الانتفاضات العربية في الدول المجاورة، فإنهم لا يزالون متخوفين حول ما إذا كانت هذه الانتفاضات الشعبية تمثل الطريق الأمثل لتحقيق التغيير. ومع تدهور الوضع الاقتصادي وحالة الضعف في معظم الدول التي نجحت بالإطاحة بالحكام المستبدين، والعنف المتزايد في الدول التي لا تزال شعوبها تناضل للإطاحة بالأنظمة الحاكمة، يواجه المشهد الاجتماعي والسياسي في السودان خطر التدهور. وقد أدى استخدام وسائل محدودة للتعبئة الجماهيرية، والغموض الذي يحيط بالمستقبل السياسي والأمني في السودان، وسعي الاحتجاجات الشعبية للإطاحة بالنظام، إلى إعاقة انتشار الاحتجاجات بشكل واسع في صفوف المواطنين. وبنتيجة انفصال الجنوب، فقد يخفف تراجع عائدات النفط السوداني قبضة الحزب الحاكم على مؤسسات الدولة ويجعل التخلي عنه مسألة وقت في صالح المتظاهرين. وقد أثبتت الثورات الماضية التي شهدتها السودان أن الشعب السوداني يمتلك الإرادة والقدرة على إسقاط أكثر الأنظمة قمعاً. ويحضر هذا في الذاكرة الجماعية للمواطنين السودانيين كمصدر للإلهام وتعتبره النخبة الحاكمة تهديداً محتملاً. ومع ذلك، ساهم فشل تلك الثورات في تحقيق تغير اجتماعي وسياسي جذري جعَلَ الشعب السوداني أكثر إدراكاً لضرورة إيجاد بديل وطني أكثر وضوحاً. بقلم دعاء عثمان، محللة البحوث في مركز الدراسات الدولية والإقليمية. نوفمبر عام 2012