ما يجب على الولايات المتحدة تعلُّمه من تايوان
حتى لحظة شروعي في كتابة هذا المقال، لم تطالعنا تايوان بتسجيل أية حالة انتقال لفيروس كورونا المستجد بين أفراد مجتمعها على مدار ثلاثين يومًا متتالية، ولم تسجّل سوى 440 إصابة و7 وفيات منذ بدء هذه الجائحة في شهر يناير من العام الحالي؛ وهذا إنجاز استثنائي يُحسب لها بالنظر إلى أن غالبية مواطنيها – البالغ عددهم 23 مليون نسمة – يعيشون في مدن مكتَظّة بالسكان، بل ويرجع ازدهار الاقتصاد التايواني في جزءٍ كبير منه إلى الروابط الوثيقة بين تايوان والصين، ناهيك عن انطلاق مئات الآلاف من الرحلات كل عام عبر المضائق الصغيرة التي تفصل جزيرة تايوان عن الأراضي الآسيوية. إلا أنه مع عودة عشرات الآلاف من المقيمين التايوانيين من كلٍ من الصين وغيرها من الدول التي شهدت انتشارًا وخيمًا لهذا الفيروس، فإن سير الحياة لم يتأثر نسبيًا في تايوان جرّاء هذه الجائحة العالمية، ولم نسمع في هذا البلد عن فرض إغلاق واسع النطاق أو إيقاف للأعمال على مستوى الدولة؛ والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: كيف استطاعت تايوان إدارة هذه الأزمة، وما الذي يمكننا تعلُّمه من النجاح الذي أحرزته؟
أستهل تجرِبتي بوصولي إلى تايوان منتصف يناير الماضي إثر منحي إجازة تفرّغ علمي من جامعة جورجتاون في قطر؛ وبحكم تخصصي مؤرِّخًا في الحضارة الصينية لما قبل القرن العشرين، فقد كان هدفي في هذه الرحلة العلمية التردد على أروقة مكتبات “أكاديميا سينيكا” – منارة تايوان الأولى في البحث العلمي – مُطالعًا وثائقها التي تعود إلى القرن الثامن عشر، لكنني عوضًا من ذلك وجدت نفسي أرقُب الشعب التايواني في تعايُشه مع التحديات غير المسبوقة التي خلَفتّها أزمة كورونا الراهنة.
وفي نظري أن النجاح الذي حققته تايوان هو إنجاز عظيم بكل المقاييس، إذ برهنت على إمكانية الحيلولة التامّة دون وقوع حالات الوفيات المؤسِفة التي مُنيت بها العديد من الدول متنوعة الجنسيات كالصين والولايات المتحدة وإيران؛ زدّ على ذلك أن الأنموذج التايواني قد أثبت أن كبح هذا الفيروس لا يستلزم بحالٍ قمع حقوق الإنسان، ولسنا بحاجة إلى الاختيار بين الحياة والديمقراطية الحكومية، كما لا نحتاج أيضًا اللجوء إلى الإجراءات الصارمة التي طبّقها “الأنموذج الصيني” بُغية التغلّب على فيروس كورونا أو درأ انتشار مثل هذه الجوائح مستقبلاً.
وقد آثر الحزب الشيوعي الصيني إيلاء الأولوية لحفظ النفس وحمايتها بدلاً من نشر المعلومات دون قيود بشأن تطورات هذا المرض، ما استتبع بدوره تحوّل فيروس كورونا المستجد إلى جائحة ألقت بظلالها على جميع دول العالم. صحيحٌ أن إجراءات التباعد المشدَّدة التي فرضتها الصين كانت ناجعة لا ريب في ذلك، إلا أنها واكبت زيادة متسارعة في نُظم الرصد الاجتماعي والصحي ذات الطابع الشمولي والنزعة التوغلية على نطاق واسع؛ وغنيٌ عن القول إن وجود مثل هذه الأدوات في قبضة دولة حزبية – هي أبعد ما تكون عن المساءلة والشفافية – ستًفضي إلى تقويض حتى الحريات المحدودة التي نالها المواطنون الصينيون في أعقاب وفاة الزعيم الصيني ماو تسي تونغ وزوال أثر الثورة الثقافية في عام 1976.
أمّا تايوان فقد دلَّلت على أن الدول الديمقراطية بمثابة سدود مانعة في التصدي الناجع لانتشار الأمراض؛ لكن يتبين لنا عند المقارنة بين تايوان ودول أخرى أن ليست كل الدول الديمقراطية على قدم المساواة في معالجة الأزمة، بل إن الوفيات الناجمة عن جائحة كورونا قد تكون مقياسًا بديلاً يتسم بالدقة رغم قتامته في تقييم كفاءة هذه الديمقراطيات من عدمه، ووفقًا لهذا المقياس نجد أن الولايات المتحدة باءت بفشل جليّ في التعامل مع الأزمة ولم تُصب حظًا من الديمقراطية إلا مُسماها الشكلي فحسب دون جوهرها الحقيقي.
إذن ما هذا المسار الصحيح الذي اتبعته تايوان؟ السر في ذلك، بادئ ذي بدء، يتلخص في مبادرة الحكومة وتصرفها الاستباقي؛ فبعد ذيوع الأخبار في منتصف ديسمبر عن اكتشاف هذا الفيروس المجهول نسبيًا في مدينة ووهان الصينية، عمدت الحكومة التايوانية إلى الإسراع بنشر فرق العمل المعنية بالتعامل مع الأمراض الجائحة، وبدأت بتفعيل استجابة منسّقة تربط بين جميع قطاعات الحكومة. ولم تنطو معظم التدابير الأولية على قدرٍ كبير من الاستعانة بالتكنولوجيا؛ بل كان جلّ اعتمادها على منظومة العقل البشري؛ فعمل المسؤولون على زيادة الناتج المحلي من الأجهزة والمُعدّات الطبية الأساسية – كالملابس الواقية – والحد من السفر من المناطق الصينية الموبوءة بالفيروس إلى جانب الفحص الشامل لكل المسافرين وتدوين بياناتهم. وفي الوقت الذي وصلت فيه إلى تايوان بتاريخ 26 يناير، طُلب إلى المواطنين العائدين من الصين عزل أنفسهم ذاتيًا لمدة أسبوعين، أمّا الزائرين مثلي فقد أرشدونا إلى متابعة حالاتنا الصحية بدقة وتجنُب أشكال التواصل الاجتماعي لمدة أسبوعين كذلك. وتكمن نجاعة هذه التدابير في حشد جهود موظفي القطاع العام تحت لواء فرق عمل يمكنها مراقبة منحنى الصحة العامة ورصد حالات الإصابة وطرق التواصل معها فور ظهورها، ثمّ أصبحت الفحوصات الصحية البسيطة إجراءً اعتياديًا عند الدخول إلى الأماكن العامة أو الشركات الكُبرى بحلول منتصف شهر فبراير.
كما سارعت الحكومة التايوانية إلى وضع نظام مخصّص لتقنين استخدام أقنعة الوجه وغيرها من وسائل الوقاية. وعلى الرغم من أن اصطفاف المواطنين يوميًا أمام الصيدليات أضحى ظاهرة ملموسة للجميع، فقد كان ذلك مؤشرًا على كفاية الأقنعة المتاحة لاستخدام الجمهور وكذلك توفر الإمدادات الطبية اللازمة في المستشفيات في إطار الإجراءات المُتخَذَة للحد من انتشار المرض. وبنهاية شهر فبراير، أسهم وضع نظام شامل للعزل الصحي ومراقبة الصحة العامة – مدعومًا باستخدام مجموعة جديدة من الوسائل التقنية المتطورة المتصلة بالهواتف المحمولة والمدمجة في نظام الصحة العامة – في متابعة انتشار المرض من جانب الحكومة وعامة الجمهور. وإيجازًا للقول، فقد أعدّت الحكومة عدّتها واستعانت بمختلف الوسائل الفعّالة، بدءًا بوضع أقنعة الوجه وصولاً إلى تطبيق ضوابط الدخول والخروج في كامل حدود الجزيرة التايوانية، بغية اجتثاث هذا المرض وغربلة ما علق من بقاياه من المجتمع.
ولمّا اشتدت هذه الجائحة حاصدةً أرواح المرضى في ربوع أوروبا ثمّ الولايات المتحدة مطلع مارس الماضي، عاد عشرات الآلاف من المواطنين التايوانيين إلى بلادهم من الخارج مستعينين بالوسائل التي وضعتها الحكومة والتي أثبتت فعاليتها المطلوبة. وعلى مدار شهر مارس، استحدثت الحكومة طائفة أخرى من تدابير التباعد الاجتماعي الموائمة للحد من انتشار الفيروس في الأماكن التي يغلب عليها وجود التجمعات الكبيرة، كالمتنزهات والأسواق والساحات العامة، فضلاً عن المؤسسات أو الشركات الكُبرى. كما طُلب إلى الموظفين في معهد البحوث الذي كنت فيه البقاء في طوابق العمل وتجنُب استعمال المصاعد أو العمل في غُرف منفصلة متى أمكن ذلك، واقتصر عمل المكتبات على تسليم الكتب وتسلّمها فحسب، مع الحرص على ترك مسافات كافية بين الطاولات في المقصف. إلا أنه على النقيض من معظم دول العالم الصناعية الأخرى، استمرت وسائل النقل العام في عملها، وظلت المدارس وأماكن العمل مفتوحة، ولم تقيّد الحكومة تحركات مواطنيها بخلاف المسافرين في خضّم هذه الأزمة وكذلك الأشخاص ممَّنْ بدت عليهم أعراض فيروس كورونا المستجد؛ وخلاصة القول إن المواطنين كانوا أشبه ما يكون في عطلة ممتدة.
غير أن جلّ ما ذُكر آنفًا لا يمثّل سوى الجانب السطحي من استجابة تايوان لهذه الأزمة والتعامل الناجع معها؛ ولعلنا جميعًا الآن على دراية بأشكال التباعد الاجتماعي التي امتازت بها دول شرق آسيا، ثم تحولت في الوقت الراهن إلى أنماط أكثر صرامة وشدّة على مستوى أوروبا وأمريكا الشمالية والشرق الأوسط. والتساؤل المطروح هنا لماذا نجحت تايوان في تطبيق هذه التدابير، فيما أخفقت فيها الولايات المتحدة، لا سيّما تعذُر نجاحها على المستوى الفيدرالي؟
وللإجابة عن ذلك نقول إن الحكومة التايوانية لم تعمد إلى جمع المعلومات الدقيقة واستقاء آراء الخبراء فحسب، إنما استطاعت فعل ما هو أكثر صعوبة من خلال استجلاء الآراء الأكثر نفعًا وملاءمة لسياق الأزمة لديها، ومن ثمّ صوغ هذه الآراء ضمن سياسة فعّالة، مشفوعةً بالحفاظ على التلاحم والتعاضد الاجتماعي. ولا يخفى وضوح الفارق بين تايوان والولايات المتحدة في طريقة التعامل؛ ففي الولايات المتحدة، وُضِع تحت تصرف رئيس الدولة النظام الأكثر تطورًا في مجال الصحة العامة على مستوى العالم، لكنه عجز عن اختيار سياسة ناجعة، بل وصل به الأمر إلى تجاهل مشورة الخبراء وتنحية آرائهم.
ومع ما سبق، لا تكمن جذور المشكلة في الرئيس دونالد ترامب نفسه – بقدر ما يسرني إنحاء اللائمة عليه – بل المشكلة الفعلية أن الولايات المتحدة لم تعُد دولة ممثلة للديمقراطية ولم يغدُ ساستها خاضعين للمساءلة المباشرة أمام الشعب الأمريكي. ولنضرب مثلاً بالدستور الأمريكي، الذي وُضع ليناسب الدولة الأمريكية عام 1820 وليس عام 2020 بحال؛ إذ مهّد الطريق أمام هيمنة حزب من أحزاب الأقلية (الحزب الجمهوري في مجلس الشيوخ) على السلطة التشريعية، ووضع انتخاب رئيس البلاد في يد أقلية من الناخبين، فضلاً عن تعيين مَنْ يختارونه في الجهاز القضائي، وأصبح للمانحين الأثرياء ومؤسسات الأعمال الاحتكارية اليد العليا على الساسة على نحو يفوق تأثير جموع المواطنين الفقراء عليهم. وفي نظام كهذا، لا يسع الساسة في كرسي الحكم أن يقدموا ملّف الصحة العامة على مكاسبهم الشخصية.
على النقيض من ذلك، اهتمت تايوان ببناء نظام سياسي يُلبي المتطلبات الثلاث الأساسية للديمقراطية، وهي التمثيل والمساءلة والشفافية؛ فقد أُعيد انتخاب الرئيسة الحالية للبلاد، تساي إنغ-ون، مباشرةً من قِبل جموع الناخبين في تايوان في شهر يناير بفارق كبير نسبته 57%، كما يتألف المجلس التشريعي التايواني من ممثلين جرى انتخابهم بطريقة مباشرة حسب الدائرة الانتخابية أو تم تعيينهم من قوائم الأحزاب وفق النسبة المئوية لأصوات كل حزب. وهذا الترتيب الدستوري المتفرّد، الذي يعكس مزجًا بين نظامين نيابيين مختلفين (أحدهما ينتمي إلى النهج الأنجلو أمريكي والأخر إلى النهج الأوروبي القاري)، يسمح للناخبين بالإفادة من التمثيل النيابي حسب كلٍ من الدائرة الانتخابية للمرشح والحزب المنتسب له. بعبارة أخرى، لا تضيع على الناخب التايواني فرصة التمثيل بالكامل إذا خسر مرشحه المحلي الانتخابات الإقليمية؛ وهو ما يتناقض تناقضًا صارخًا مع نظام الولايات المتحدة، حيث يضيع صوت الناخب “الديمقراطي” سدى إذا أدلى به في ولاية تهيمن عليها أصوات الناخبين المنتمين للحزب “الجمهوري”.
وكذلك يتسم النظام السياسي في تايوان بتوزيع السُلطة بين مختلف فروع الحكومة وداخلها، شأنه في ذلك شأن الدول الديمقراطية الأخرى، ولكن مع وجود اختلافات كبيرة؛ أحد هذه الاختلافات – على عكس ما يحدث في الولايات المتحدة – هو محدودية سلطة الرئيس التايواني على الفرع التنفيذي بطبيعة الحال، نظرًا لأن الإدارة اليومية لشؤون البلاد بيد رئيس الوزراء الذي يُعينه رئيس الدولة، لكن يحق للمجلس التشريعي سحب الثقة منه بأغلبية بسيطة. وبالمثل، يضطلع رئيس الوزراء – دون الرئيس – بتعيين الوزراء في الوزارات المختلفة، فيما جرت العادة أن يكون العديد منهم من خارج الحزب الحاكم (أو أي حزب في حالات كثيرة). والنتيجة هو أنه في غمار الأزمات، كجائحة كورونا الحالية، تقل احتمالية أن تنطوي عملية صنع السياسات على قرارات “مُسَيّسة”؛ أي تشوبها غايات أو اعتبارات سياسية يرومها رئيس الدولة على المدى القصير.
وعلى مدار الأشهر الثلاثة الماضية، بدا أن وسائل الأخبار التايوانية خلت إلا من مطالعة بيانات وزير الصحة والرعاية الاجتماعية تشن شيه شونغ، أحد مسؤولي ملف الصحة العامة الذي اكتسب خبرته، جنبًا إلى جنب نائب الرئيس والعديد من أعضاء الحكومة الحالية، من خلال التعامل مع جائحة “سارس” في عام 2003. وتُعد المؤتمرات الصحفية المنتظمة التي يعقدها وزير الصحة من الأخبار الواجب مشاهدتها على شاشات التلفاز في الفترة الراهنة؛ حيث تنتهي إلى أذنيّك جرعة مكثّفة من تصريحات الوزير المُغلّفة بالوضوح والصراحة والشمول والاتساق في إطار من القرارات السياسية الفعّالة (وأقرب تشبيه في ذهني للوزير التايواني أنه يجمع مزيجًا من سمات الدكتور أنتوني فاوتشي وأندرو كومو حاكم ولاية نيويورك[WY1] )، وهذا ما أكسبه شهرةً واسعة في تايوان وجعله رمزًا للثقة والحزم اللذيّن نالتهما تايوان على الساحة العالمية مؤخرًا. وفي هذا السياق، توارت رئيسة تايوان تساي إنغ-ون عن الأضواء رغم ما تحظى به من تأييد الناخبين وقبولهم، وقصرت دورها على المراقبة والإقلال من الخطابات العامة دعمًا منها لجهود وزير الصحة في هذه المرحلة.
ولأن دولة تايوان تتمتع بمقومات الديمقراطية الحقّة، من شفافية ومساءلة وتمثيل سليم، فقد استفادت من ثقة الشعب واطمئنانه لها في تنفيذ بعض التدابير التقييدية الطارئة بصفة مؤقتة، وطلبت من المواطنين تقديم تضحيات حقيقية من أجل المصلحة العامة. وعلى خلاف سياسة الإلهاء والتشتيت التي تستمرئها الولايات المتحدة (وهي قرين سياسة “الإطعام والترفيه” التي اعتمدتها الإمبراطورية الرومانية في أواخرها مع شعبها)، حيث انصرف التعامل مع الأزمات الداخلية على مدى العقدين الماضيين إلى مجرد تخفيض للضرائب عن كاهل الشعب وتشجيعهم على التسوّق؛ بينما كانت أزمة كورونا الراهنة باعثًا على بناء الدولة في تايوان.
لقد أتت جائحة كورونا لتكشف لنا عن ضآلة الجهود التي نثرتها الولايات المتحدة في بناء الدولة إبان الثلاثين عامًا المنصرمة؛ ومن تبعات انتهاء الحرب الباردة أن تركت الشعب الأمريكي في حالة من التخاذل والرضا بالأمر الواقع. وأفضى التعلُّق بحبال الانتصار الواهية والتمسُّك الأعمى بعوار الدستور الأمريكي إلى ذبول الديمقراطية الأمريكية وجفافها على عودها؛ يقابل ذلك مبادرة تايوان خلال الفترة ذاتها إلى التحوّل من دولة ديكتاتورية إلى ديمقراطية مزدهرة.
ومنذ عام 1949 – الذي مُنيَ فيه الحزب القومي الصيني الحليف للولايات المتحدة آنذاك بخسارة الحرب الأهلية أمام الحزب الشيوعي الصيني ليوليّ هاربًا في أعقاب ذلك إلى تايوان – وحتى أواخر سبعينيات القرن الماضي، لم تكن جزيرة تايوان إلا قاعدة عسكرية في المقام الأول سيبدأ منها إعادة غزو الصين. وقد أدّت نهاية الحرب الباردة وتقارب الولايات المتحدة مع جمهورية الصين الشعبية إلى إشعال فتيل أزمة وجودية بالنسبة لتايوان؛ وظهر تساؤل على الساحة مفاده ما الفائدة من تمسك جمهورية الصين بهذا الجزء من الأرض في تايوان بعد أن آلت إلى عدم الاعتراف بها كدولة ذات سيادة وكحليف أساسي للولايات المتحدة؟ ونظرًا لافتقار حكومة تايوان إلى الموارد الطبيعية التي تقوم عليها الدول، فقد تعذّر عليها أيضًا كسب الاعتراف الدولي أو حشد التأييد العام على غرار ما حدث مع ممالك النفط في الشرق الأوسط؛ وعلى ذلك، واجه زعماء تايوان خيارًا قاسيًا يتمثل في الإذعان للصين والخضوع لسيطرتها أو إعادة بناء الدولة في الجزيرة التايوانية واضعين نصب أعينهم إدراك هدف جديد. واختار زعماء السلطة في تايوان البديل الثاني في نهاية المطاف، ورأوا أن الديمقراطية والتوطين، وليس الانضمام إلى الأراضي الصينية مرةً أخرى، هما الركيزتان الأساسيتان اللتان يعوّل عليهما في إعلاء حق تايوان في الوجود.
وقد دفع الخطر الجسيم والمتزايد، جرّاء تعاظم قوة الصين، الشعب التايواني إلى بناء دولة ليبرالية والعمل دون كلل على ترسيخ شرعيتها. وعلى غرار كثيرٍ مما حدث مع المؤسسين الأوائل للولايات المتحدة، أدرك التايوانيون أن الأسس التي ينبني عليها نظام الحكم الليبرالي يجب أن تخضع للفحص والإصلاح والتجديد المستمر. وفي حين أن الولايات المتحدة لاقت فشلاً كبيرًا في إصلاح دستورها (إذ لم تشهد الدساتير الأمريكية أي تعديلات جوهرية بها منذ عام 1967)، فقد أتمّت تايوان إصلاحين رئيسين لنظامها السياسي منذ تسعينيات القرن الماضي.
ويشكو منتقدو النظام الحالي في تايوان من أنه لا يزال هناك الكثير مما ينبغي عمله لتقليل رقعة الفساد والقضاء على نظام المحسوبية الذي يتخلله شراء الأصوات في أثناء الانتخابات. ولكن بوجه عام، تفوقت تايوان على كلٍ من الولايات المتحدة والصين في منع تراكم الثروة في أوساط النُخبة وما تستجلبه من زيادة نفوذهم السياسي؛ وبات توزيع الثروة ونشر الفرص الاقتصادية أقرب كثيرًا إلى مجتمعات المساواة في أوروبا الشمالية منه إلى الولايات المتحدة (معامل جيني لقياس عدالة توزيع الثروة في تايوان وألمانيا والصين والولايات المتحدة يساوي 33 و32 و46 و47 على التوالي).
وإذا كان الادعاء باشتداد وقع الأزمات كلما كانت الدولة أكثر استبدادًا مجافيًا للإنصاف، فلا غضاضة من القول إن زيادة رقعة الديمقراطية في المجتمع تفضي إلى تعاظم فرص الحيلولة دون وقوع الجوائح والحد من تداعياتها السلبية.
أختم حديثي بأنه قبل مائة عام من الآن، وتحديدًا في مؤتمر باريس للسلام، اجتمع الحلفاء المنتصرون في الحرب العالمية الأولى ليقرروا فيما بينهم وأدّ الطموحات الديمقراطية لدول شرق آسيا في مهدها، بل وحكموا على المجتمعات في هذه الدول بالاستمرار تحت نير الاستعمار والتدخل الانتهازي من قِبل الاتحاد السوفيتي؛ ثم تشاء الظروف في الذكرى السنوية لذلك الاجتماع أن يُفرض على الأوروبيين والأمريكيين الآن توجيه أنظارهم إلى تايوان – وعدد من الدول المجاورة لها في آسيا – كيما يستعيدوا ثقتهم وإيمانهم بجدوى المناقب الجوهرية التي يقوم عليها النظام السياسي الليبرالي.
كتب المقال الدكتور ماكس أويدتمان، الأستاذ المشارك بقسم التاريخ بجامعة جورجتاون في قطر.
طالع المزيد عن مشروع كوفيد البحثي من خلال هذا الرابط.