خلفية المشروع ونطاقه
أثارت الاحتجاجات الشعبية في الشرق الأوسط اهتمام الدارسين والصحفيين وصناع السياسات على حد سواء، بالدور السياسي الذي تلعبه الإنترنت وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات في المنطقة. إذ قدّمت تكنولوجيا الاتصال الرقمية شبكات مفتوحة وتدفقاً للاتصال في منطقة ترزح تحت أنظمة الحكم الديكتاتورية، وتُصوَّر عموماً بأنها طاردة للمعلومات. وسارع المحللون، الذين أشاروا إلى ثورات تويتر وفيسبوك في إيران ومصر، واحتجاجات اليوتيوب في سورية، إلى تسليط الضوء على أن الاتصال الرقمي يلعب دوراً أساسياً في تنظيم الاحتجاجات التي قادت، في المحصلة، إلى سقوط أنظمة كانت مُحصّنة، أو أضعفت قوتها بشكل كبير.
ولا ريب أن التقنيات الرقمية قد أحدثت نقلة نوعية جذرية في الاتصال الإعلامي حول العالم. وفي ظل ظهور نماذج إعلامية غير مركزية وأنماط اتصال أقل هرمية، يُتاح لمستخدمي الإنترنت اليوم وصول أكبر إلى مصادر متعددة للمعلومات، وإمكانية أكبر ليتواصلوا فيما بينهم. وقد استطاع هؤلاء المستخدمون، مع انتشار التكنولوجيا، تجاوز الحدود الجغرافية والوطنية والثقافية على الفور. كما تمكنوا من تشكيل تجمّعات متنوعة على الإنترنت لا تحدها المؤسسات التقليدية كالعائلة والمجتمع والدولة. ومع انتشار المعلومات على نطاق واسع، باتت المجتمعات تعتمد على ذاتها في جمع المعلومات ونشرها كما يتبين بوضوح من ظاهرة المواطن الصحفي. بناءً على ذلك، تراجعت فاعلية أنماط رقابة الحكومات، وتحكمها بهيكلية ومحتوى الإعلام واحتكارها لهما. إلا أن ظواهر الرقابة والتحكم والاحتكار لم تختفِ. فقد أتاحت الإنترنت فرصة للحكومات أيضاً لمراقبة شعوبها عن كثب، وتحويل الفضاء الرقمي إلى وسيلة جديدة من وسائل ملاحقة الحكومات لشعوبها.
من جهة أخرى، ترى الحكومات حول العالم في الإنترنت وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات أدوات رئيسية للتنمية الاقتصادية. ويشكِّل تعزيز وصول المواطن إلى الإنترنت وتشجيع استخدام الشركات لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات وسيلة لتطوير اقتصاد المعرفة وحافزاً للنمو الاقتصادي. وتمتلك دول الشرق الأوسط قاعدة صناعية سطحية مقارنةً بالدول الصناعية في العالم. ويرى القائمون على التنمية أن الاستثمار في التكنولوجيا الرقمية سيُمكِّن دول الشرق الأوسط من مواكبة التطور التكنولوجي العالمي، ومواكبة المجتمعات الأخرى في عصر المعلومات. ويتّضح التركيز المتزايد على هذا القطاع من إنشاء وزارات لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والاستثمار في البنية التحتية للاتصال، وبناء مدن للإنترنت والإعلام، وخطط تطوير الجاهزية الرقمية في مختلف دول المنطقة. إلا أن حجم وفاعلية هذه الاستثمارات ليس واحداً في كافة أنحاء الشرق الأوسط. حيث سبقت دول الخليج، على وجه الخصوص، غيرها من دول المنطقة إلى تطوير البنية التحتية للاتصال وإطلاق مبادرات تهدف إلى تعزيز الجاهزية الرقمية، محققةً بذلك مراتب متقدمة في مؤشرات تكنولوجيا المعلومات والحكومات الإلكترونية الصادرة عن الأمم المتحدة والمنتدى الاقتصادي العالمي.
وأدّت الاستثمارات المتزايدة في البنية التحتية لتكنولوجيا الرقمية، ونسبة الشباب العالية من السكان، والكثافة السكانية العالية في التجمّعات الحضرية، إلى ظهور جيل رقمي في الشرق الأوسط. ويضم هذا الجيل جماعة من مستخدمي الإنترنت الذين يستخدمون الإنترنت لمختلف الأغراض، وكما هو الحال في مختلف أنحاء العالم، يتمكن هذا الجيل من استهلاك المعلومات وإنتاجها بصورة جديدة. ولا يتوقف استخدام الإنترنت في المنطقة على الاتصال السياسي كما يوحي الخطاب المهيمن في المنطقة. إذ يستخدم سكان الشرق الأوسط الإنترنت لمشاهدة الأفلام ورفع المواد المصورة ومتابعة اهتماماتهم وشراء المنتجات ولعب ألعاب الفيديو والتفاعل مع أقرانهم والالتحاق ببرامج تعليمية وإيجاد الوظائف. ورغم تراجع استخدام الإنترنت في المنطقة مقارنة بالمعدلات العالمية، يزداد عدد مستخدمي الإنترنت في الشرق الأوسط بتسارع كبير، والأهم أنهم يستخدمون الإنترنت لكافة الأغراض المتنوعة التي يقدمها العالم الرقمي. وفي العصر الرقمي، وجد صناع السياسات والأكاديميون أن الاتصال بالعالم الرقمي عامل أساسي في تحقيق المشاركة الاجتماعية. إذ توفر الإنترنت وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات فوائد عدة لمستخدميها، ومنها الوصول إلى وسائل أقل كلفة للاتصال بمن يعرضون الوظائف، والخدمات الحكومية، وفرص تعلّم إضافية، وبنى تحتية اجتماعية. بناء على ذلك، ومع تزايد الاتصال واستخدام الإنترنت، يُتاح لسكان الشرق الأوسط أدوات تُمكِّنهم من التحرك بشكل أفضل. وبالعكس، يتعرض غير القادرين على الاتصال إلى احتمال المزيد من التهميش والإقصاء الاجتماعي، بسبب افتقادهم للأدوات التي يوفرها العالم الرقمي.
وتجدر الملاحظة أن مستخدمي الإنترنت في المنطقة ينتجون محتوى ذا صلة محلية وعالمية، ما يبيِّن أنهم ليسوا مجرد مستهلكين للمعلومات، بل هم أيضاً منتجون للمحتوى. وقد سُمِّي هذا النمط من العمل، حيث يمكن لمستخدمي الإنترنت استهلاك المعلومات وإنتاجها، باسم «المشاركة المتناظرة». أي أن الاتصال بالإنترنت يتيح مجالاً أوسع للتأثير، ويقوِّض البنية الهرمية للعمل والتفاعل. وتكتسب هذه الظاهرة، بالضرورة، صلة سياسية بأنظمة الحكم الديكتاتورية في الشرق الأوسط، حيث تفرض الدولة قيوداً صارماً على تدفق المعلومات.
تتزايد أهمية الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، لانتشار التقنيات الرقمية في الشرق الأوسط، لفهم المنطقة على المستويين الكُلّي والفردي كليهما، وآثار هذه التقنيات على الحياة اليومية. وفي هذا الإطار، يطلق مركز الدراسات الدولية والإقليمية مبادرة بحثية متعددة التخصصات العلمية تهدف إلى استكشاف الوصول إلى العالم الرقمي في الشرق الأوسط، وكيفية استخدام عدة فاعلين للإنترنت وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات الرقمية، ومادية هذا الاستخدام وسياقه، وإمكانية استخدام هذه الأدوات لإحداث تحولات اجتماعية واقتصادية وسياسية على المستويات الفردية والمحلية والوطنية والعالمية.
وفيما يلي بعض المجالات التي تتعرض لها المبادرة بالبحث:
كيف يمكننا فهم التوزع الرقمي في الشرق الأوسط بشكل أفضل؟ تقيس المؤشرات المعتادة التي تضعها المنظمات العاملية نسبة التغلغل الرقمي بحساب نسبة استخدام الإنترنت والأجهزة النقالة للفرد. إلا أن هذا الشكل من القياس يهمل الاستخدام الجماعي أو المشترك للإنترنت (كالاستخدام في مقاهي الإنترنت مثلاً، وهو ظاهرة بارزة في الشرق الأوسط)، ما يؤدي إلى نتائج غير دقيقة حول الوصول إلى الإنترنت في المنطقة. كما لا يتناول هذا الشكل من القياس السياقات الاجتماعية والاقتصادية لاستخدام الإنترنت، ما يؤدي إلى إعاقة فهمنا لأولئك الذين لا يمتلكون الوصول إلى العالم الرقمي.
كيف تعاملت دول الشرق الأوسط مع الإنترنت، بوصفها سلاحاً ذا حدين؟ توفر الإنترنت وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات شبكات مفتوحة وتدفقاً سريعاً للمعلومات، ويؤدي ذلك إلى تطوير اقتصاد المعرفة، ولكن، في الوقت نفسه، يمكن لمواطني الدول المحكومة من أنظمة ديكتاتورية استخدام هذه الأدوات لأغراض المعارضة السياسية. فما هي الوسائل الرسمية وغير الرسمية التي اتبعتها الدول للاستفادة من تكنولوجيا المعلومات والاتصالات من جهة، وضمان مصالحها والحد من تسييس استخدامها من جهة أخرى؟
كيف تستخدم مجموعات اجتماعية متنوعة الأدوات الرقمية، وكيف تشارك في العالم الرقمي؟ ما هي أنماط التعلم الجديدة المتاحة للشباب في الشرق الأوسط؟ كيف استطاعت النساء تجاوز القيود التي يفرضها المجتمع افتراضياً؟ ما مدى تأقلم الأجيال الأكبر والأقل معرفة رقمية مع ازدياد دور الإنترنت وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات؟
وفر العالم الرقمي منصة للتفاعل السهل وغير المكلف والخاص مع الأقران عبر الإنترنت. ما هو دور تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في تسهيل العلاقات العاطفية الافتراضية في المجتمعات المحافِظة؟ كذلك، ما هي آثار التكنولوجيا الرقمية على أنساق الاتصال بين أفراد العائلة؟ وما أثرها على الصلات العائلية في الشرق الأوسط؟
تعزز الحكومة الإلكترونية اتصال المواطنين ووصولهم إلى المعلومات. فما هو دور خدمات الحكومة الإلكترونية، في الشرق الأوسط، في تعزيز الشفافية؟ وهل شجعت خدمات الحكومة الإلكترونية تنمية القطاع الخاص في عدة دول في المنطقة؟
كتبت المقال دعاء عثمان، باحثة ومحللة في مركز الدراسات الدولية والإقليمية.