خلفية المشروع ونطاقه
بالنسبة للكثيرين، اعتبر انهيار الاتحاد السوفياتي في عام 1991 حدثًا إيجابيًا، يطلق في جوهره كسر قيود الملايين من الناس والمجتمعات المتعددة التي لطالما تم التحكم فيها بصرامة وقمع تحت الهيمنة الروسية.
كان شعور المجتمع العالمي في أوائل التسعينيات هو أن الشعوب “المحررة” حديثًاً والدول المستقلة التي خرجت من الركام السوفياتي سيتاح لها أخيراً فرصة الانتقال إلى أشكال أكثر صحة للحياة السياسية والاقتصادية. وبينما جلبت نهاية الحرب الباردة وتفكيك الاتحاد السوفياتي بالتأكيد موجة من إعادة التشكيل إلى الأنظمة الدولية والإقليمية، فمن الواضح أنها لم تؤد إلى موجة فورية من التغيير الإيجابي للدول المتاخمة للاتحاد السوفيتي السابق على نحو مباشر.
تم ترك الجمهوريات الرئيسية التي اعتادت أن تكون جزءاً من الاتحاد السوفياتي، ولا سيما في آسيا الوسطى، لتواجه مشكلات الحدود الاصطناعية والسكان التي نجمت عن تبعيتها لمشروع بناء الدولة في الاتحاد السوفياتي ومساعيه في إعادة هيكلة البناء الاجتماعي بها.
الحدود الجديدة لها أساس تاريخي محدود، في حين أن السكان الذين ضمتهم كانوا متباينين للغاية من حيث الثقافة واللغة والعرق. كانت معضلة الجمهوريات المستقلة الشابة في آسيا الوسطى نفسها هي كيفية بناء هذه الأراضي والشعوب المعيّنة حديثا إلى “أمم” مستقلة ذات سيادة تنبض بالحياة.
بالإضافة إلى ذلك، واجهت هذه الدول الناشئة، عند الاستقلال، عددًا من التحديات الهيكلية والموروثات التي خلفتها الحقبة السوفياتية، مثل ممارسات الحكم الاستبدادي ومؤسساته، والظروف الاقتصادية المتعثرة، والافتقار إلى الدعم العملي والمعنوي من قبل المجتمع الدولي، وضعف الحماس الشعبي لبناء الأمة داخل أراضيهم، فضلا عن استمرار وجود ثقافة سياسية طويلة الأمد قابلة للاستبداد.
كجزء من استراتيجية أوسع لتوسيع نطاق أعماله البحثية إلى مناطق تقع الى الشرق من منطقة الشرق الأوسط، يطلق مركز الدراسات الدولية والإقليمية مشروعًا بحثيًا جديدًا لدراسة بعض القضايا المركزية المتعلقة بعمليات بناء الدولة التي كشف عنها في آسيا الوسطى.
من الدعائم الأساسية لهذا الجهد البحثي، الاهتمام بدراسة كيفية اجتياز دول آسيا الوسطى لمشكلاتها المبكرة، وما كان عليه طريقها نحو بناء الأمة على مدى الثلاثين سنة الماضية، وما هي النتائج المترتبة على استراتيجيات معينة تتبعها دول مختلفة. لقد كان. ويأمل المركز من خال هذا المشروع أن يحقق، من بين أهداف أخرى، توسيع الفهم الأكاديمي وتعميقه لكيفية قيام هذه الدول الشابة ببذل جهود لبناء دولتهم الموحدة الحديثة، وماهي السبل التي من خلالها تمكنوا من تأسيس التماسك السياسي والاجتماعي، وكيف شاركوا في عمليات الدمج المؤسسي.
شرع الاتحاد السوفياتي في مشاريع بناء الأمة في آسيا الوسطى للتأثير على المجتمعات الأصلية التي كانت تعيش في المنطقة. وهذه المشاريع، مدفوعة بالمبادئ الماركسية اللينينية، كانت تهدف إلى تحويل مجتمعات السكان الأصليين هذه إلى “دول قومية على المدى القريب” تتبنى الإيديولوجية الاشتراكية.
ستعمل هذه الدول القومية على خدمة الطموح السوفياتي لدولة سوفياتية مركزية تتجاوز مقومات القومية. بعد مرور ما يقرب من ثلاثة عقود على سقوط الاتحاد السوفياتي واستقلال هذه الدول الغنية بالموارد في آسيا الوسطى، فإنها تواصل تعزيز هوياتها الوطنية، ولكن هذه المرة بإزالة الاتحاد السوفياتي عن هويتها والترويج لثقافاتها ولغاتها التي لطالما عرفت بها من خلال الرموز وإعادة مكتوبة تاريخها العرقي المبهر.
ومع ذلك، فإن تماسك الهوية الوطنية قد واجه العلاقات المعقدة بين الدولة والمجتمع. حيث لم تتطور دول آسيا الوسطى من جذور تكوينات مجتمعاتها. بل هي بالأحرى اصبحت ناتجا فرعيا لتخطيط الحكومات والمنظمات الدولية والجهات الفاعلة عبر حدود الدول، التي تدخلت بشكل كبير في بناء قدرة الدولة وفي السياسة الداخلية لآسيا الوسطى في عصر ما بعد الهوية السوفياتية.وهذا يثير التساؤل: إلى أي مدى نجحت جمهوريات آسيا الوسطى الفتية في إدارة مجتمعاتها التعددية، وأوضحت هويات وطنية مشتركة تختلف اختلافاً كبيراً عن الهوية السوفياتية؟
فيما يتعلق بهذه المناقشة، بذل الاتحاد السوفيتي جهودًا كبيرة لإحداث تغيير في دور المرأة في المجتمعات الأبوية الذكورية في آسيا الوسطى. هذا بهدف إدماج المرأة في القوى العاملة في القطاعات التي اعتادت أن تكون من المحرمات على النساء، ولصياغة ثقافة المجتمعات الأصلية في آسيا الوسطى ضمن القيم السوفياتية. بعد الاستقلال ومع الرغبة في إزالة نفوذ الاتحاد السوفياتي عن آسيا الوسطى و “العودة” إلى الثقافات الاسمية، تحاول دول في آسيا الوسطى تغيير دور المرأة في المجتمع مرة أخرى.ما هو الدور الذي تطمح الدول في آسيا الوسطى في حقبة ما بعد الاتحاد السوفياتي لتحقيقه للمرأة؟ وما هي ردود فعل المرأة تجاه هذه التطلعات والسياسات الرسمية للدول تجاهها؟
علاوة على ذلك، سادت النزاعات الإقليمية / العرقية خلال ترسيم الحدود الذي قامت به اللجنة السوفيتية الإقليمية، مثل ترسيم الحدود بين كازاخستان وأوزبكستان. وقد ادعت كلتا الدولتين عرقيتين مثل كوراما، وتركي ، وكيباشك، وبينما ترتبط بعض هذه العرقيات بشكل اشتقاقي، وأصولي، وتنتسب من الناحية النسبية لبلد واحد ، فإنها تنتمي إلى دولة أخرى فيما يتعلق بنمط الحياة. وفيما يتعلق بطشقند، اعتبر سكان الحضر انهم أكثر انتماء الى أوزبكستان في حين يعتقد سكان الريف أنهم ينتمون الى كازاخستان. وعلى الرغم من أن اللجنة الإقليمية قد حسمت هذه الخلافات، فهل هذه المجتمعات والسكان لا يزالون يتنازعون بشأن هذه القضايا المتعلقة بالانتماء؟ إذا كان الأمر كذلك، فكيف تدير الدول هذه المجتمعات البشرية التي لا تعترف بانتمائها بالكامل للدولة؟
كما أن الهجرة الجماعية من آسيا الوسطى إلى روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي تستحق المزيد من الدراسة. فقد غادرت أعداد كبيرة من المهاجرين من العمال الذكور بشكل أساسي وسط آسيا بسبب الظروف الاقتصادية والصراعات والشكاوى المتعلقة بالهوية العرقية والتمييز. كيف أثر هذا على التركيبة السكانية في آسيا الوسطى في فترة ما بعد الحقبة السوفياتية؟ وكيف كان رد فعل الدول على هذه الهجرات الجماعية للعمالة؟ وكيف أثرت الهجرات الجماعية من آسيا الوسطى على ديناميكيات الأسرة وحياة النساء والأطفال الذين تركهم ارباب السرة من الرجال وراءهم؟
ترتبط قدرة الدولة على الانخراط في عملية بناء الدولة ارتباطا وثيقا بقدرتها على إنشاء مؤسسات قوية تعمل على تحقيق أهدافها التنموية الطموحة. تخدم مؤسسات الدولة بطرق متعددة باعتبارها الأدوات الحاسمة لمشاريع بناء الدولة، من تطوير الأجهزة العسكرية والدفاعية، والنظم التعليمية والصحية، وآليات الضرائب، وتشجيع ثقافة وطنية متماسكة تعكس الأعراف والعادات المحلية.
يهدف هذا المشروع، من بين أمور أخرى، إلى فهم كيفية قيام دول آسيا الوسطى على اخافها ببناء القدرة المؤسسية لتطوير الدول ودعمها بفعالية. على سبيل المثال، بعد الاستقلال، جمعت جمهوريات آسيا الوسطى الناشئة موضوعات عسكرية في أيديولوجياتها الجديدة. للقيام بذلك، كان عليها استبدال الطابع السوفياتي لمؤسساتها العسكرية بهوية أكثر مركزية للدولة. وهذا لا يعني فقط ابتكار رموز وميداليات وزي موحد وأعلام وشعارات جديدة، بل أيضاً الأبطال الوطنيين. ساهمت هذه المساعي في نشر الأفكار القومية من خلال تصوير ملاحم الوطنيين في السينما والأدب. كما عملت المؤسسات العسكرية ما بعد الحقبة السوفياتية كبوتقة لتحقيق الانصهار والتجانس للهويات العرقية المختلفة ودمجها في هوية تتمحور حول الدولة.
وفيما يتعلق باللغة والتعليم، فإن الدستور السوفياتي نظر إلى التعليم على أنه حق، وضمن للأطفال تعليمًا بلغتهم الخاصة. ومع ذلك، كان على جميع الأطفال في كافة أنحاء الاتحاد السوفياتي أن يدرسوا نفس المناهج الدراسية والكتب المدرسية نفسها، مترجمة إلى مختلف اللغات التي تنطف بها الشعوب عبر الأراضي السوفيتية.
لم يكن نظام التعليم مهتمًا فقط بتعليم القراءة والكتابة، ولكن أيضًا لتشكيل القيم والأفكار الاجتماعية والأخلاقية والسياسية للأطفال. وهذا يعني أنه بعد الاستقلال، اضطرت دول آسيا الوسطى إلى تنفيذ إصلاحات تعليمية للتعامل مع تبعات انقصال سكانها عن الاتحاد السوفيتي ، وغرس قيم وأفكار جديدة تتمحور حول الأمة. فيما يتعلق بالإنتاج الثقافي ، فقد تم تسييسه بشدة في دول آسيا الوسطى في عصر ما بعد الاتحاد السوفياتي.
اعتمدت “الدول المسرحية” في آسيا الوسطى طريقة أيديولوجية الهبوط من أعلى إلى أسفل لإنتاج الثقافة كجزء من مشاريع بناء الأمة. منذ أن تدخلت الدولة في الثقافة، وهي في جوهرها مسعى مجتمعي، كيف كانت علاقات الدولة مع النخبة الفكرية في آسيا الوسطى في عصر ما بعد الحقبة السوفياتية؟
يعتبر موقف الإسلام في آسيا الوسطى في فترة ما بعد الاتحاد السوفياتي أيضا جديرا بالدراسة. على الرغم من أن الاتحاد السوفيتي لم يكن متسامحا مع العقيدة الإسلامية وممارسات المسلمين في آسيا الوسطى، وقام بتفكيك طبقة العلماء في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، إلا أن الحداثة السوفياتية قدرت ثقافة وتقاليد المجتمعات الاصلية التي كانت تعيش في ظل الاتحاد السوفياتي وتراثها.
ونتيجة لذلك، لم يتح ممارسة الشعائر الإسلامية علانية وتم حظر كتب النصوص الإسلامية، وقد نجا الإسلام في المنطقة من خلال انتقاله الشفهي وكفضاء لممارسة الثقافة والحفاظ على التراث التقليدي. ومع محاولات إعادة اكتشاف الإسلام في عهد غورباتشوف وبعد الاستقلال، ازداد تسييس الإسلام في المنطقة. ووجدت دول آسيا الوسطى ما بعد الحقبة السوفياتية نفسها في ورطة شعرت فيها بأنها مضطرة إلى اعتناق الإسلام كجزء من تطوير مشاريعها الوطنية للهوية، ولكنها في الوقت نفسه أرادت الحد من أي تهديد ينبع من الإسلام السياسي ينتشر بين السكان.
في جوهرها، اعتمدت العديد من هذه الدول اليوم سياسات لتبني “الإسلام الصحيح” مقابل “الإسلام الخاطئ”. في هذا المشروع الحالي، نأمل أن نفحص الدور المتطور للإسلام في تشكيل الهوية الوطنية في آسيا الوسطى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
تمارس الدول الهيمنة على دوائرها الانتخابية من خلال الاعتماد على مجموعة متنوعة من السمات، من بينها: فكرة وطن تاريخي، الأساطير المشتركة والذكريات التاريخية، والثقافة الجماهيرية العامة. تنعكس هذه الميزات غالبًا في تطوير الحيز الحضري والرموز والفن والإنتاج الثقافي والرياضة والمأكولات. كيف يغرس الحضر والعمارة في المناطق الحضرية هوية وطنية مشتركة في آسيا الوسطى؟ وكيف استكملت سياسات الرياضة لدول آسيا الوسطى مشاريع الهوية الوطنية؟
تعتمد المبادرات البحثية لمركز الدراسات الدولية والاقليمية “بناء الأمة في آسيا الوسطى” على نهج متعدد التخصصات، حيث يتم دراسة مجموعة واسعة من المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والجغرافية. سيتم دعوة عدد محدود من الباحثين للمشاركة في تحليل نقدي متعمق لطبيعة الدول القومية ما بعد الاتحاد السوفياتي في آسيا الوسطى. من خلال تحديد الفجوات في الأدبيات الحالية، ويتمثل هدف مجموعة العمل في صياغة أسئلة بحث أصلية وتحديد مجالات التركيز والتحليل الحاسمة. وبناءً على اجتماع مجموعة العمل هذه، سينشر المركز مجلدًا يتناول القضايا المعنية.
مقال بقلم إسلام حسن، محلل ابحاث، بمركز الدراسات الدولية والاقليمية