فكرة المشروع ونطاقه

يطلق مركز الدراسات الدولية والإقليمية مشروعًا بحثيًا جديدًا بعنوان “تونس ما بعد الثورات العربية”. ويُرمى من هذه المبادرة البحثية المتعددة الاختصاصات إلى دراسة التغيرات والتحولات التي شهدتها تونس منذ انطلاق ثورتها، ودلالات الديناميات الاجتماعية-الثقافية والسياسية المتطورة بالنسبة لهذا البلد في طوره الانتقالي.

فبعد مرور زهاء عقد من الزمن على اندلاع الثورات التي أطاحت برموز استبدادية بارزة في العالم العربي، لا تزال منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تعيش حالةً من التطورات المضطربة. فآمال التغيير الاجتماعي والسياسي التي أشعلت شرارة تلك الثورات لم ترَ النور، ولا يزال الاضطراب يلفّ أرجاء المنطقة. ورغم أن تونس سلكت مسارًا مختلفًا وضَعَها على سكةٍ واعدة، فإنها تظلّ حبيسة عمليةٍ انتقاليةٍ صعبة على الأصعدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ولا تزال تونس، بعد مرور عقدٍ من الزمن على ثورتها، دولةً تراوح في طور الانتقال وتتصف بهشاشةٍ دائمة.

من الناحية النظرية، يمكن أن يساعد مفهوم التأرجح الحدّي في فهم الطريقة التي تناولت بها تونس عمليةَ انتقالها وتكيّفت مع واقعها الجديد، وهي تخرج من القالب الاستبدادي الذي يميّز الكثير من دول المنطقة وتعانق التغيير. وقد ظهر مفهوم التأرجح الحدّي أول ما ظهر في مجال الأنثروبولوجيا الثقافية، وأصبح شائع الاستعمال في علم الاجتماع السياسي (يانغ)، والأنثروبولوجيا السياسية (توماسين) والعلاقات الدولية (مايلكسو، وروميليلي). ويصف التأرجح الحدّي حالةً من التأرجح تتسم بعدم اليقين وانعدام الوضوح. وللمراحل الانتقالية، على وجه الخصوص، بُعدٌ حدّي واضح المعالم، حيث تتّسم بتفكّك نظام معيّن وظهور حالة جديدة من الضبابية وعدم اليقين. ومن شأن تسليط الضوء على جوانب هذا البعد الحدّي أن يجلّي حالة تونس ويضيف إلى فهمنا للتحولات المعقّدة والمستمرة المرتبطة بديناميات ما بعد الثورة.

لقد نفّذت تونس، منذ اندلاع ثورتها في عام 2011، عملية انتقال سلمي جعلتها محلّ ثناء باعتبارها “منارة أمل” في منطقة مضطربة. واستطاع هذا البلد أن يبني ديمقراطية تعدّدية ناشئة، ويجري انتخابات برلمانية ورئاسية وبلدية، ويضمن انتقالاً سلميًا للسلطة في ظروف عصيبة. وقد يَسَّرَ تفضيلُ تونس الشمول على الاستقطاب السياسي اندماجَ حزبها الإسلامي الرئيس في نظامها السياسي المعتمَد حديثًا ومكّن البلد من تطوير ثقافة الوفاق السياسي كما تجسّدها حكومات الوحدة المتعاقبة والائتلافات المتكرّرة بين الأحزاب السياسية الرئيسة والفاعلين السياسيين البارزين. ومما يجدر ذكره أيضًا ازدهار المجتمع المدني في تونس، وإصلاحاتها المؤسسية المختلفة، ودستورها التقدّمي الجديد الذي يدعم الحريات الفردية، ويناصر حقوق المرأة، ويحمي حرية التعبير.

ورغم هذه الإنجازات، لا تزال هناك تحديات هائلة. ولئن كان أداء تونس أفضل من أداء سائر الدول العربية التي اهتزت بسبب الثورات، ولئن استطاعت نزع فتيل العديد من الأزمات، فإن انتقالها يظلّ غير مستقر، وديمقراطيتها ناشئة، ونظرتها المستقبلية غير مؤكدة. وبخروج البلد من عقود من الحكم الاستبدادي، يجد نفسه في مواجهة تحديات سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية هائلة تقوّض انتقاله السلمي. وتحبس هذه التحديات الجسام البلدَ على نحو متزايد في حالة حرجة سِمَتُها الهشاشة الدائمة.

وعلى الصعيد السياسي، لم يترجم التحوّل الديمقراطي في تونس إلى ثقافة سياسية قوية لأن المشهد السياسي لا يزال غير متوازن وغير مستقر في آن. ورغم أن الحزب العلماني الرئيس في البلد، الذي ظهر في أعقاب تفكك حزب بن علي الحاكم، استطاع حشد عدد كبير من أتباعه، ما مكّنه من الفوز في الانتخابات بموجب الدستور الجديد وتبوّء موقعه باعتباره قوةً توازن ثقل الإسلام السياسي، فإنه سرعان ما سقط في المشاحنات السياسية والانقسامات الداخلية والصراع على السلطة. وتبيّن أن الكمّ الغفير من الجماعات المنشقّة والأحزاب الجديدة تشكيلاتٌ نخبوية لا رؤية واضحة لها ولا قاعدة شعبية، ما أدى إلى ضعف الحزب الحاكم وانقسام المعارضة. ومما زاد من تقويض الثقافة السياسية الجديدة أن هذا التشرذم جعل ممارسة السلطة تعتمد على الأفراد أكثر من اعتمادها على مؤسسات الأحزاب السياسية. وعززت هذه التكوينات موقع حزب النهضة، الحزب الإسلامي الرئيس في البلد، الذي استطاع أن يتبوأ موقعه في قلب المعترك السياسي المعاد صياغته في تونس، مستفيدًا من خبرته السياسية الطويلة وقوته التنظيمية وانضباط قاعدته. وإجمالاً، فإن الثقافة السياسية التي تبلورت في حقبة ما بعد بن علي هي ثقافةُ التحالفات والتنازلات، لكنها ليست خُلوًّا من التوترات والانشقاقات التي بلغت أحيانًا حدّ الأزمة، مما زاد من شبح عدم الاستقرار السياسي وتآكل الثقة في كامل النظام السياسي ما بعد الثورة. فلا غرابة إذن في أن هذه التوترات والأزمات السياسية المتكرّرة هيّأت تربةً خصبة للقوى المناهضة للديمقراطية لكي تعاود الظهور وللدولة العميقة المتربصة لكي تستعيد الزخم. ومن العوامل التي تؤثّر تأثيرًا أكبر في العملية الانتقالية بطءُ الإصلاح وصعوبةُ تحقيق العدالة الانتقالية ومصالحةُ البلاد مع ماضيها المضطرب بطرق يمكن أن تمهّد الطريق لبداية جديدة.

وما يثير القلق أكثر هو استمرار المشاكل المرتبطة بالأسباب الجذرية للثورة التي أطاحت ببن علي، بما في ذلك تطلّعات الشباب التي لم تتحقق، ووعد تحقيق التنمية الشاملة في المناطق الداخلية، الذي لم يُنجَز بعدُ، وتزايد الفوارق الاجتماعية والاقتصادية؛ ذلك أن ضعف الاقتصاد، ومشاكل البطالة المزمنة، وارتفاع التضخم، وانخفاض القدرة الشرائية، وتدهور المستوى المعيشي، كل ذلك ينتج عنه الكثير من الاستياء ويذكّي الاحتجاجات الاجتماعية. فغالبًا ما أدت الآثار الاجتماعية المترتبة عن المشكلات الاقتصادية المتفاقمة في البلاد إلى مواجهةٍ بين الحكومة والمنظمة النقابية الرئيسة في البلاد (الاتحاد العام التونسي للشغل)، التي عزّزت قدرتها على الدعوة إلى الإضرابات لاستعادة ثقلها السياسي، ما يصعّب على الدولة تنفيذ إصلاحات اقتصادية عميقة يرى منتقدو الحكومة على نطاق واسع أنها سياسات فرضتها المؤسسات المالية الأجنبية والجهات المانحة الدولية على حساب الطبقة الوسطى المتدهورة. ومما يزيد من تعميق المشاكل الاقتصادية في البلاد انتشارُ الفساد، وتوسُّع شبكات التجارة غير النظامية، واستمرارُ الاقتصاد الموازي الذي تطوَّرَ على حساب النشاط الاقتصادي الرسمي بما لذلك من آثار مالية مضرّة بالدولة.

وأعاقت التحدياتُ الأمنية المتزايدة التي تواجهها البلاد، في ظلّ استمرار شبح العنف السياسي وخطر التطرف والإرهاب، محاولاتِ إنعاش الاقتصاد، وجذب الاستثمارات الأجنبية، وتعزيز قطاع السياحة الحيوي. وتفاقمت هذه التهديدات الأمنية بسبب التطوّرات المقلقة في المنطقة، لا سيما مع اندلاع الفوضى في ليبيا المجاورة ودخول الجزائر في المجهول في ظل ضغوط شعبية متحدّية تطالب نخبةً حاكمة راسخة القَدم بتغيير حقيقي. وتؤثر التطورات الإقليمية الأوسع نطاقًا على الديناميات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تتكشف في البلاد، بدءًا من ظهور موجة معادية للثورات العربية من قِبل فاعلين إقليميين تهدّد ارتداداتُ الانتفاضات العربية بقاءَهم، وانتهاءً بعمليات إعادة التشكيل التي تشمل فاعلين دوليين لهم مصالح جيوسياسية واقتصادية في المنطقة. وتجعل هذه التحديات خلال المرحلة الحاسمة التي يمرّ بها تاريخ البلاد الوضعَ الحرج أكثر تعقيدًا. 

وبذا، تبرز تونس، بعد مرور عقد على اندلاع ثورتها، دولةً متأرجحة تتسم بهشاشة دائمة. ولئن كانت العقبات الهائلة التي لا تزال تونس تواجهها لا تستبعد أن تحمل حالة عدم اليقين هذه معها إمكانيات جديدة واعدة، فإنها تثير تساؤلات حول الحسابات المفرطة في التفاؤل بشأن تونس باعتبارها استثناءً ديمقراطيًا يبرز كنموذج يحتذي به العالم العربي. ولا تقتصر التغيرات المزعزعة للاستقرار والشكوك المتزايدة التي تزجّ بالبلاد في حالة من التأرجح على المجال السياسي. ويتجاوز هذا المشروع المناقشات التحليلية التي تدرس التجربة التونسية من منظور إرساء الديمقراطية الضيق، محاولاً استيعاب الطبيعة المعقدة للتحولات المستمرة في البلاد، وموليًا الاهتمام لكيفية تشكّل الديناميات السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية المتقاطعة.

يدرس المساهمون في هذا المشروع البحثي التعاوني مختلفَ التطورات التي تشهدها تونس من منظور تخصّص كلٍّ منهم والمجال الذي يركز عليه في أبحاثه. ولا يسعى هذا المشروع باعتباره عملاً جماعيًا فقط إلى تحديد الاتجاهات التي تميّز الانتقال الصعب في البلاد وفهمها على نحو أفضل، بل يسعى أيضًا إلى أن يستكشف إلى أي مدى تحبس هذه التغيّرات المعقّدة تونس في حالة دائمة من الهشاشة وما يعنيه هذا المأزق بالنسبة للبلد. وتتعلق الاستفسارات الفردية بتونس بين الحقائق الجيوسياسية المتغيرة والاستبداد المستمر في المنطقة، وسياسة القوة ورشد الحكم، وأوجه تطور الإسلام السياسي، والاتحاد التونسي للشغل باعتباره فاعلاً اجتماعيًا-سياسيًا، والمجتمع المدني المعاد تنشيطه، والنزاعات وعلاقة الدولة بالمجتمع، والذاكرة الوطنية والعدالة الانتقالية، وحقوق المرأة والحريات المدنية، والتحديات الاقتصادية والأمنية المتنامية، وإشراك الشباب وسياسة الهوية، وإعادة التشكيل الثقافي للحريات العلمانية والدينية والمكتسبة حديثًا، وتغيير الديناميات الإعلامية.

وستوجّه الدعوة إلى عدد من الباحثين والخبراء للمشاركة في هذا المشروع البحثي التابع لمركز الدراسات الدولية والإقليمية وتقديم تحليل نقدي معمّق للمواضيع المذكورة أعلاه. ويعتزم المركز نشر نتائج هذا البحث في الوقت المناسب في مجلد تعاوني.

مقال بقلم محمد الزياني