سياسات التعليم العالي وظهور أزمة الإفراط في التعليم
ارتفعت أعداد الطلاب الملتحقين بمؤسسات تعليمية عليا في معظم دول الشرق الأوسط خلال السنوات الماضية. وقد أظهرت الحكومات إلتزاماً قوياً بالتعليم العالي، وكان هناك دعم على نطاق واسع من قبل الساسة والمواطنين لإنشاء مزيد من الجامعات وإتاحة المزيد من الفرص لتلقي تعليم جامعي. ولكن خلال الأعوام الأخيرة ارتفعت أعداد الخريجين من الجامعات في العديد من المجالات التعليمية ليتجاوز طاقة استيعاب سوق العمل وارتفعت معدلات البطالة بين الطلاب الجامعيين. ومع الأسف، فإن ارتفاع معدلات البطالة لم يؤد إلى انخفاض اعداد الملتحقين بالتعليم الجامعي. وبدلا من ذلك، سقطت بعض دول الشرق الأوسط في “فخ التعليم المفرط”، حسبما يقول نادر حبيبي أستاذ الاقتصاد ودراسات الشرق الأوسط في جامعة برانديس.
يتضمن فخ التعليم المفرط، كما عرفه نادر حبيبي العملية التالية: في نهاية المطاف سيقبل خريجو الجامعات الذين لم يتمكنوا من العثور على عمل في مجالات دراستهم بوظائف منخفضة ومتوسطة المهارات كتلك التي لا تحتاج لدرجة جامعية. وهم بذلك يقللون من فرص التوظيف لخريجي المدارس الثانوية، الذين كان من الممكن تقليدياً أن يحصلوا على تلك الوظائف. وبالتالي، فإن خريجي المدارس الثانوية يواجهون معدلات بطالة مرتفعة (بسبب ازدحام السوق بالخريجين الجامعيين)، وسيستنتج الكثيرون منهم أن الخيار الوحيد لتلافي البطالة هو “الحصول على تعليم جامعي”.
قدم نادر حبيبي محاضرته بعنوان “سياسات التعليم العالي وأزمة الإفراط في التعليم في الشرق الأوسط” بمركز الدراسات الدولية والإقليمية في التاسع عشر من فبراير. وقد جادل بضرورة وجود توازن بين النوعية والكمية فيما يتعلق بالتعليم في المنطقة. حيث قال “الحصول على درجة جامعية في الفيزياء ثم الحصول على عمل في مجال الكيمياء أو في عمل يتطلب درجة جامعية ليس إهداراً للموارد، فأنت لاتزال خريجاً جامعياً تعمل في مجال آخر، ولكن إذا كنت خريجاً جامعياً وتعمل في مجال لا يتطلب مهارات التعليم الجامعي فينبغي عليك التفكير في الموارد التي أهدرتها (أنت والحكومة) لتحصل على هذه الدرجة الجامعية”.
بدأ حبيبي محاضرته بالحديث عن أحوال التعليم العالي في مصر وإيران وتركيا قبل أربع سنوات. وبالتعاون مع شركاء بحث محليين في تلك الدول، أجرى بحثاً حول دخول خريجي الجامعات، وفحص الدوافع وراء اختيار الأفراد الحصول على درجات، وقام بمقابلات مع صانعي السياسات ودرس أنماط التخطيط للتعليم العالي.
ويقول حبيبي: “هناك طلب ثقافي مرتفع للحصول على درجات عليا في كل مكان، ولكن الوضع لم يكن هكذا قبل أربعين أو خمسين عاما، ففي عام 1976 لم يكن هناك خريج جامعي واحد في إيران عاطلاً عن العمل، ولكن في عام 2011 بلغت نسبة العاطلين عن العمل من خريجي الجامعات 19%. ويقول حبيبي إن معدلات البطالة بين خريجي الجامعات اليوم تزيد عن مثيلاتها لخريجي المدارس الثانوية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
على مدار العقدين الماضيين وبسبب القبول السياسي للخصخصة في قطاع التعليم العالي، فقد تمكن صناع السياسية من توسع دائرة التعليم العالي بدون زيادة الانفاق الحكومي لنفس النسبة. ولذلك، فقد تم تخفيض العبء المالي من خلال الخصخصة. “في تلك البلاد، ارتفعت معدلات الالتحاق بالجامعة، ولكن عبء التعليم الملقى على كاهل الحكومة لم يرتفع والساسة لم يتكهنوا بأن ارتفاع معدلات الالتحاق بالجامعة ستعني عبئاً ضخماً، فتكلفة التعليم تعتبر الى حد كبير عبئاً على المجتمع بأكمله، لذلك ينبغي تبرير العودة إلى التعليم ليس فقط للأفراد ولكن أيضاً للمجتمع برمته، من خلال الأخذ في الاعتبار الاستثمارات الحكومية الضخمة للتعليم فوق الثانوي”.
من الخصائص الشائعة بين دول الشرق الأوسط هو أن الحكومات تقوم بدور شديد الفعالية في التخطيط التعليمي، ويقول حبيبي إن هذا ليس نفس الحال في أوروبا أو الولايات المتحدة، حيث عدد كبير من الجامعات هي جامعات خاصة، والحكومات ليس لديها الكثير من السيطرة على أمور الالتحاق والقبول، ويضيف: “هناك تبريران مبدئيان لقيام الحكومة بتوسيع نطاق الفرص التعليمية في مراحل التعليم العالي: تبرير اقتصادي ( الطلب في أسواق العمل على خريجي الجامعات) والطلب الاجتماعي.
ينبع تبرير سوق العمل من اعتبارات تخطيط العمالة. فعلى أساس التكهنات البعيدة المدى للنمو الاقتصادي و التنمية الصناعية، تقدر الحكومة حجم العمالة الماهرة اللازمة في كل من المجالات المحددة. من ناحية أخرى فإن الطلب الاجتماعي على التعليم العالي يقوم على رغبة الطلاب وأسرهم لتحصيل تعليم أعلى. وأضاف: “وعادة ما يكون الطلب الاجتماعي أعلى من طلب أسواق العمل لأن المواطنين يلحظون أن خريجي الجامعة يحصلون على دخل أعلى، ويعيشون في مستوى اجتماعي افضل ولديهم تفاعل اجتماعي وفرص أفضل. وبينما هناك العديد من المزايا الاجتماعية والثقافية لوجود شعب أكثر تعليما، فإنه ينبغي النظر إلى ظروف أسواق العمل والتشغيل لخريجي الجامعات”.
قدم حبيبي وجهة نظره فيما يتعلق بالإحصائيات التي تشير إلى ارتفاع معدلات الالتحاق بالجامعة خلال الأعوام الأخيرة يبن عام 1995 و2015، فقد شهدت كلاً من إيران وتركيا ارتفاعاً بنسبة تصل إلى خمسمائة في المائة. وفي مصر التي يبلغ عدد سكانها تسعين مليوناً، يبلغ عدد طلاب الجامعات مليونين ونصف المليون في الوقت الحالي، بينما في تركيا التي يبلغ تعداد سكانها ثمانين مليونا فإن عدد طلاب الجامعات يبلغ خمسة ملايين طالب. وقد ارتفعت نسبة المصريين الذين تتراوح أعمارهم بين 25 و 29 سنة الذين يحملون درجة جامعية بنسبة 80% خلال تلك الفترة.
توسعت الجامعات في إيران بسرعة كبيرة خصوصا منذ عام 2005، “لوجود أسباب سياسية ولضغوط شعبية. فإذا كنت خريجاً في علوم الكمبيوتر أو القانون، فستتاح لك الفرصة للحصول على وظيفة مناسبة، ولكن نلاحظ وجود نسب بطالة عالية في هذه المجالات بدرجة تثير الدهشة وأيضا في بعض التخصصات الأخرى مثل الهندسة المعمارية والهندسة المدنية، ويشير إلى أنه في إيران في عام 2016 بلغت معدلات البطالة بين خريجي الجامعات من الذكور 13% وبين الإناث 65 %.
لاحظ حبيبي ورفاقه أنه في كل من هذه البلاد تلقى صانعوا السياسيات توصيات بالتعامل مع هذه القضية من خلال التخطيط لحجم العمالة المتوقعة (على سبيل المثال تقدير احتياجات سوق العمل للبرامج الجامعية، وقبول الطلاب تبعا لحاجات محددة). ولكن في كل الحالات المقترحة، يقول حبيبي، قوبلت الحلول بالرفض من قبل متخذي القرارات السياسية لأن الطلب الاجتماعي على التعليم العالي كان أقوى لدرجة أنهم لم يتمكنوا من رفض طلبات من الأسر التي تريد إرسال أبنائها الى الجامعة. وبدلا من التركيز على الطلب في أسواق العمل، ركز الساسة على إرضاء المطالب الاجتماعية سعياً وراء الحصول على تعليم عالي، وهو ما نتج عنه حالة البطالة والقبول بوظائف دنيا.
ذكر حبيبي دولتين تمكنتا من احتواء مشكلة التعليم المفرط، وهما ألمانيا وسنغافورة. استخدمت المانيا برامج للتعليم والتدريب المهني في المدارس الثانوية تتمتع بالفعالية وذات شعبية، ولذلك فقد اختار الكثيرون من الطلاب التعليم المهني لوظائف في مجالات الإنتاج الصناعي لأنهم يعثرون على وظائف يحصلون منها على راتب جيد بعد التخرج. هذا النظام أثبت فعالية بسبب وجود تعاون بين مؤسسات القطاع الخاص ومدارس التدريب والتأهيل المهني، كما يقول حبيبي.
نجحت سنغافورة في مقاومة المطالب الشعبية ووضع حدود صارمة على الالتحاق بالجامعة. وقد حققت الحكومة ذلك من خلال تقليص دور وزارة التعليم العالي في تحديد حصص الطلاب الملتحقين بالجامعة، وقد منح هذا وزارة القوى العاملة الصلاحية لممارسة دور أكبر في التخطيط للتعليم العالي. وكنتيجة، أصبحت الحدود القصوى لأعداد الطلاب الملتحقين بالجامعة مرتبطة بشكل وثيق بتوقعات الطلب في أسواق العمل لكل تخصص جامعي.
عن هذا يقول حبيبي” هناك بعض الخطوات التي يمكن اتخاذها لمنع التعليم المفرط، ولكنها ستحتاج إلى إرادة سياسية،” وأشار إلى الحاجة للتخطيط الاقتصادي والى مفهوم “وضع حد أقصى والقبول بالبدائل”، حيث يتم وضع حد أقصى على أعداد الطلاب المقبولين في كل تخصص (مثلا الهندسة المدنية)، وبعد ذلك تتنافس الجامعات فيما بينها للحصول على تصاريح بالتسجيل والالتحاق للطلاب. وقال إن أزمة التعليم المفرط تذكره بقضية التضخم وكيف تمكنت الدول من التغلب عليها. مستخدما هذه المقارنة، قال حبيبي “طالما كان البرلمان مسؤولا عن السياسات النقدية فسيكون من الصعب محاربة التضخم لان أعضاء البرلمان سيودون استرضاء ناخبيهم من خلال زيادة الانفاق الحكومي وسيرغمون الحكومة المركزية على تمويل العجز في الموازنة من خلال طباعة أوراق نقدية. ولكن عندما يكون البنك المركزي في بلد ما مستقلاً لا يستطيع الساسة إرغامه على طباعة النقد وإحداث تضخم. “ولذلك فتحويل قرارات الالتحاق بالجامعة والتعليم العالي إلى جهاز مستقل بعيداً عن الضغوط السياسية والاجتماعية يمكن أن يكون له تأثير مماثل لمنع التعليم المفرط”.
نادر حبيبي هو أستاذ اقتصاد “لكرسي هنري جيه لير” متخصص في اقتصاديات الشرق الأوسط بمركز كراون للشرق الأوسط بجامعة برانديز. قبيل التحاقه بجامعة برانديز في يونيو عام 2007 عمل كمدير عام للاستشراف الاقتصادي وتحليل المخاطر لمنطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا بمؤسسة غلوبال إنسايت المحدودة. يتمتع حبيبي بخبرة طويلة تمتد الى 28 عاما في التدريس، والأبحاث والإدارة تتضمن : نائب رئيس للأبحاث في معهد المصارف الإيراني ( طهران)، أستاذ مساعد في الاقتصاد بجامعة بلكنت ( انقرة)، وزميل بحث ومحاضر في الاقتصاد السياسي بالشرق الأوسط بجامعة ييل.
كتب المقال جاكي ستاربيرد، مساعدة الإصدارات والمشروعات بمركز الدراسات الدولية والإقليمية.