التيارات الاجتماعية في المغرب العربي
عقد مركز الدراسات الدولية والإقليمية الاجتماع الافتتاحي لفريق العمل الخاص بموضوع التيارات الاجتماعية في المغرب العربي خلال يومي 7 و 8 يناير 2014 في واشنطن العاصمة. فبينما ركز كثير من وسائل الإعلام الرئيسية والمنح البحثية الأخيرة بشأن المغرب العربي على الأبعاد السياسية والأمنية للمنطقة، التقى المشاركون على مدى يومين لمناقشة التغيرات والتدفقات الاجتماعية في المملكة المغربية وليبيا وتونس والجزائر وموريتانيا. وقد قدم فريق العمل سلسلة من المداولات بشأن القضايا الاجتماعية التي سبقت التحولات السياسية الأخيرة في المنطقة، وسعى إلى دراسة المسار المعقد الذي مرت به الظروف الاجتماعية الحالية لتلك الدول.
وكما أشرنا أعلاه، تدور معظم النقاشات الأخيرة بشأن المغرب العربي حول التحولات السياسية، وبشكل أكثر تحديداً حول علاقة تلك التحولات بالحركات الإسلامية في سياق الربيع العربي. وبينما تم أخذ المسار التاريخي للحركات والأحزاب الإسلامية بالاعتبار بوجه عام، فقد أُهملت إلى حد كبير الدينامياتُ الداخلية للأحزاب السياسية في المنح البحثية. لهذا أبرز المشاركون في فريق العمل ديناميات العلاقة بين الإسلاميين وقادة الأحزاب السياسية المختلفة، وكذلك ديناميات العلاقة بين الأجيال داخل الأحزاب. تحتاج الأحزاب والحركات السياسية كوحدة للتحليل إلى إدماج المفاهيم الداخلية للتهجين الأيديولوجي، التي لا تتحدى الوضع الراهن للمشهد السياسي في البلاد فحسب، بل تتحدى أيضاً السياسات والاستراتيجيات بعيدة المدى لتلك الحركات. هذه الخفايا الداخلية تلمح إلى الابتكار الأيديولوجي للحركات الإسلامية، والذي يتجاوز المنظور التقليدي للتحليل “الاعتدال من خلال الإدراج” أو “التطرف من خلال القمع”.
وبالإضافة إلى الأحزاب السياسية والإسلام السياسي ، ناقش المشاركون ممارسة الشعائر الدينية والأنثروبولوجيا السلفية والصوفية. في سياق الأخيرة، أنشأت الاحتفالاتُ الصوفية وشعائر الحج الدينية التي يمارسها التيجانية، الذين يهاجرون من غرب أفريقيا إلى المغرب العربي، شبكات اقتصادية واجتماعية تغلغلت في المنطقتين. وفي حين توسعت حركة التيجانية إلى حد كبير في غرب أفريقيا، فإن تلك الشبكات الصوفية قد أفادت تقليدياً أيضاً كروابط حيوية لإنتاج المعرفة.
عنصر آخر يربط المغرب العربي بغرب أفريقيا ومنطقة الساحل يتمثل في الحركات الأمازيغية العابرة للوطنية. ففي حين ركز معظم الباحثين على الصراعات السياسية والاجتماعية للأمازيغ في الجزائر والمغرب بشكل منعزل، أصبحت تحركاتهم بطبيعتها عابرة للحدود الوطنية على نحو متزايد، باعتبارها تضم في نشاطها السياسي أمازيغ آخرين أو فئات اجتماعية أخرى مثل الطوارق. مع هذه المحاولات لإنشاء اتصالات عابرة للوطنية يأتي الشعور بالازدواجية الوطنية، كما يتم دفع مسائل الهوية إلى الواجهة فيما يخص “الأفرقة” و “الأمزغة”. هذه المسائل لا تشير إلى التوترات العرقية العميقة بين مجموعة اجتماعية معينة ونظرائها في الوطن، وإنما تفيد في تسليط الضوء على السياسة المعاصرة وكيفية ظهورها في نظام سياسي متغير مع انفتاح أو انغلاق سياسي نسبي.
نوقشت أيضاً الهويات الهجينة في سياق الحراطين في موريتانيا. والحراطين، أو المنحدرون من أصل الرقيق، يعيشون حالياً تجربة مستويات مختلفة من التبعية السياسية والاجتماعية. وهم لا يشكلون مجموعة متجانسة، بل يعرفون أنفسهم كعرب أو بربر أو أفارقة أو موريتانيين. وتؤثر الهوية، التي يمكن أن تستخدم أيضا كأداة سياسية، تأثيراً مباشراً على التحالفات الاستراتيجية التي تبنيها حركة الحراطين من أجل تعزيز قضيتها السياسية في موريتانيا. وفي حين ركزت الحركة كثيراً على قضايا التبعية السياسية والاجتماعية، إلا أنها لم توجه اهتماماً فعالاً لمسألة التحرر الاقتصادي أو للتجربة التي يعيشها الحراطين اليوم.
لم تكتسب حركات أخرى مثل جبهة البوليساريو في الصحراء الغربية موطئ قدم كبير في مسارها السياسي، لكنها ضمنت وصولاً أكبر إلى الصناديق الاقتصادية. وعلى عكس الفكرة التقليدية حول الحركة المسلحة، نوعت البوليساريو على نحو متزايد محفظتها من التمويل الاقتصادي والتنموي لتشمل مصادر غير تابعة للدولة خارج الجزائر. فقد وسعت المواردُ من منظمات المجتمع المدني ومن أفراد العائلات المهاجرين في الخارج قاعدةَ الدعم الاقتصادي لحركة البوليساريو وأثرت في الوقت نفسه على أنشطة الحركة واستثماراتها.
وبالإضافة إلى سياسات الهوية، نوقشت أيضاً سياسات اللغة وتجلياتها التاريخية والاقتصادية والاجتماعية. فلغة التدريس في المدارس المغربية على سبيل المثال، تعدّ مزدوجة إلى حد كبير، مما يبدو متناقضاً مع الحفاظ على التراث الثقافي واللغوي (العربي أو البربري) ومع ضرورة تزويد الخريجين باللغات التي تلبي احتياجات السوق العالمية (مثل الفرنسية أو الإنجليزية). فلغة التدريس في نظام التعليم المغربي مجزأة حيث يتم استخدام اللغة العربية في المدارس الابتدائية العامة والفرنسية في التعليم العالي. وهذا ربما يؤدي إلى تفاقم العقبات التي يواجهها السكان المحرومون اجتماعياً واقتصادياً في تحقيق الحراك الاجتماعي اثناء انتقالهم من مستوى تعليمي إلى آخر. هذا التشرذم اللغوي في نظام التعليم يمكن أن يتناقض مع التهجين اللغوي الذي يدرَج على نحو متزايد في التعبير الفني عند الشباب. فإدماج اللغة الدارجة (العامية العربية) في الأشكال الثقافية التي ينتجها الشباب يعدّ بمثابة وسيلة لتفكيك قضايا الهوية ويوفر مادة ضمنية للتعليق على لغة السياسة بأنها بعيدة عن الحياة اليومية. وقد عُرّف هذا الاستخدام الفني للتهجين اللغوي كعنصر مكوِّن للمشاريع الثقافية والاجتماعية للشباب في المغرب العربي المعاصر.
وبالتوازي مع سياسات الحفاظ على اللغة، ناقش المشاركون حركات المحافظة على التراث الثقافي، وتحديداً تلك التي تتعلق بيهود شمال أفريقيا. فقد ضعف الوجود اليهودي في المغرب وتونس بشكل ملحوظ منذ عصر ما قبل الاستقلال، لكن الجهود المبذولة لحفظ مواقع التراث اليهودي وترميمها ارتفعت بصورة متزامنة. وفي حين تعمل هذه المشاريع من أجل الحفاظ على ذاكرة الجالية اليهودية في شمال أفريقيا حية، فإن سياسة المحافظة تلك تشير أيضاً إلى أن هذه الحركات تسعى إلى شدّ اليهود إلى الماضي بدلا من السير قدماً نحو الحاضر.
كما ناقش المشاركون أيضاً الرياضة من حيث علاقتها بالهجرة والهوية والتحولات السياسية في المغرب العربي. ففي حين كانت أوروبا الوجهة الرئيسية للرياضيين، أصبحت منطقة مجلس التعاون لدول الخليج العربية في الآونة الأخيرة وجهة مربحة جديدة لشباب المغرب العربي. وقد اكتست القضايا المتعلقة بالهجرة المعاكسة للرياضيين، وإحساسهم بالانتماء، وبناء الهوية حول الدين واللغة أهمية في المقارنة بين الخليج وأوروبا كوجهتين مفضلتين للرياضيين. علاوة على ذلك، ومع التحولات السياسية في المنطقة، استخدمت الأنظمةُ السياسية الرياضةَ لصالح مختلف المصالح الاستراتيجية مثل تعزيز المصالحة في الجزائر أو إعادة بناء نظام وطني للرياضة في ليبيا بعد عقود من الاهمال من جانب القذافي .
هذه السلسلة من المواضيع المجتمعية، من الحركات الاجتماعية التي شكلتها الفئات المهمشة إلى اللغة التي يستخدمها الشباب في التعبير الفني، تسلط، مجتمعةً، الضوءَ على الأسس الاجتماعية للمغرب العربي المعاصر.
كتبت المقال دعاء عثمان، محلل البحوث في مركز الدراسات الدولية والإقليمية