الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2016

الانتخابات الرئاسية الأمريكية 2016

في الثامن عشر من أكتوبر 2016 نظم مركز الدراسات الدولية والإقليمية بجامعة جورجتاون في قطر ندوة حوارية بعنوان “انتخابات الرئاسة الامريكية 2016″، استضافت الأساتذة جوشوا ميتشل وكلايد ويلكوكس، أساتذة إدارة شؤون الحكومة بكلية الشؤون الدولية بجامعة جورجتاون في قطر، وكلاهما من الخبراء البارزين في مجال تخصصهم.

يتخصص البروفيسور ميتشل في النظرية السياسية، وله عدد من المؤلفات في موضوعات مثل الدين والحرية في الولايات المتحدة، بينما كتب البروفيسور ويلكوكس عن جماعات المصالح واتجاهات الرأي العام، وسلوك الناخبين، وتمويل الحملات الانتخابية. وقد أدار النقاش الدكتور مهران كمرافا، مدير مركز الدراسات الدولية والإقليمية.

بدأ ميتشل المناظرة بالتركيز على سؤال محوري: “لماذا فاز دونالد ترامب بترشيح الحزب الجمهوري بسهولة بالغة؟” وللإجابة على ذلك أوضح أن: “الهدف من وجوده هنا ليس الدفاع عن ترامب، ولكن لتفسير ظاهرته من خلال عدسات تاريخ الفكر السياسي.”

ومع إيضاح بعض الخلفيات المتعلقة بالمناخ السياسي الحالي، أوضح ميتشل صورة الولايات المتحدة كدولة منقسمة بصورة حادة مشيرا إلى أنه: “هناك نوعان من الولايات المتحدة الامريكية في الوقت الحالي.” واحدة تنعكس في السلطة والثراء الذي تتمتع به واشنطن، وغيرها من المراكز الحضرية، حيث أسعار العقارات ومصادر الدخل في ارتفاع مستمر، بينما هناك أمريكا أخرى وهي: “أمريكا اليائسة، المدمنة للمخدرات، و التي ترتفع بها نسبة الانتحار، والوظائف المنخفضة الأجور والكراهية المتزايدة للغطرسة اللامنتهية للأغنياء.”

بسبب هذا التناقض والانقسام الحاد بين الغنى والفقر، والصدوع الآخذة في الاتساع داخل دوائر السياسة، كان حدوث “انتفاضة شعبية” في صورة مرشح من خارج المؤسسة السياسية كدونالد ترامب أمراً متوقعاً رأيناه قادما منذ فترة ليست بالقصيرة.

وعند التدقيق في اللحظات السياسية الفارقة التي تفسر أسباب نجاح “ترامب”، يقول إنه إبان الحرب الباردة، “لم تتماسك أجنحة الحزب الجمهوري بفضل وحدتها الداخلية، ولكن بسبب مشاركتها في مواجهة خصم واحد، وهو ما يعرف بالتيار التقدمي داخل البلاد وخطر الحرب الباردة من خارجها.”  

ويشير ميتشل إلى أنه عقب نهاية الحرب الباردة، لم يعد هناك سبب يدعو لأن يبقى الحزب متماسكا بعد هزيمة خصومه المشتركين، ولذلك:” قفد أصبحت مسألة وقت قبل أن يتفكك الحزب، فإذا لم يكن ترامب، فسيكون هناك شخص آخر سواء عاجلا أم آجلا.”

وفي أعقاب الحرب الباردة، بزغ فكر سياسي جديد في عقول الشباب، الذي بدأ في تعريف حياته طبقا لمعايير “العولمة” و”الهوية”، التي أصبحت من العوامل الرئيسية في المشاركة السياسية المعاصرة. هذه الشروط تختلف الى درجة بعيدة عن مفاهيم السياسة القديمة التي تمحورت حول مبدأ الدولة المستقلة ذات السيادة والمواطن المنطقي التفكير، كما حددتها معاهدة وستفاليا عام 1648، وكتاب ليفياتان لمؤلفه توماس هوبز عام 1651 عن بناء المجتمع والحكم الشرعي.

واليوم، لم تعد مفاهيم السيادة والاستقلال تكمن في الدولة، ولكنها “فوق الدولة”، في الأعراف الكونية، والتجارة والقانون الدولي، والمنظمات والمؤسسات العابرة للدول، وأيضا تكمن “أسفل الدولة” في سياسات الهوية. ويقول ميتشل: “ولديك هذه المفارقة الصارخة، حيث المواطن غير المادي الذي يتخيل هويته من منظور علاقته بالأخرين ويرى السياسات كنشاط ينبغي الانخراط فيه على نحو إيجابي، وليس من منظور المواطنة.”

وفي الوقت الحالي فإن المعركة التي تدور رحاها سواء في الولايات المتحدة -أو حتى في أوروبا كما شهدنا في نتائج استفتاء خروج بريطانيا – تتمحور حول ما إذا كان مستقبل السياسة سيستمر على نفس نهج المبادئ الراسخة للعولمة وسياسات الهوية لما بعد 1989، أم سينجح شخص ما يحمل مبادئ ترامب وقيمه العليا في تفكيك الهيكل السياسي الحالي بترتيباته التقليدية.

لقد نجح ترامب في إبهار جمهور الناخبين المؤيدين له من خلال التصدي لتيار العولمة، وعكس اتجاهه من خلال طرحه مزاعم حماسية لمست مشاعرهم بأهمية الحدود، وأهمية سياسات الهجرة، وأهمية المصالح القومية بدلاً من المصالح العالمية، وبأهمية الأنشطة الاقتصادية الحرة، وبأهمية اللامركزية، وأخيرا بعدم أهمية الخطاب السياسي السليم الذي يعد مكونا رئيسيا في سياسات الهوية.

ويضيف ميتشل: “عندما يتفوه ترامب بعبارات وقحة فإنه لا ينظر اليها على أنها خطيئة لا تغتفر، بل يعتبرها مجرد زلات لسان”. وكان رد فعل حملة هيلاري كلينتون على سلوك ترامب الفظ يركز على استقطاب التأييد للعبارات الدينية الامريكية التقليدية من قبيل “النقاء” و “التدنيس”، ويشير ميتشل إلى أن إعادة إحياء النبرات الدينية في الخطاب تبعث على القلق كتطور يجعل من ترامب ومؤيديه “مُدَنَّسِين” لارتكابهم أفعالاً غير أخلاقية ولا أمل في إصلاحهم، الأمر الذي يزيد من تباعد الفجوة والانقسام في البلاد بوضوح عبر خطوط سياسة وعرقية.

ويقول إنه لكون هيلاري كلينتون بيضاء، فإن حملتها الديمقراطية تسير في اتجاه تهذيب أمريكا البيضاء وتصحيح أخطائها وميلانها ظاهريا للعنصرية.

هذان الجانبان من الانقسام يقعان ضمن خطوط المحافظين التقليديين واليساريين بدرجة من العمق تحول دون وجود تيار ثالث أو بديل آخر، الذي هو نظام ليبرالي ليس لديه مصالح أو اهتمامات بأي من السياسات الحزبية الشائكة للحزبين.

وفي الختام يقول ميتشل “إن المعركة المستقبلية لن تكون حول سياسات الهوية أو الدولة. أعتقد أن سياسات الهوية والعولمة قد خسرا المعركة. والسؤال المطروح الآن أمامنا هو: هل ستكون الدولة لبرالية متفتحة العقل ومتسامحة أم ستكون ضيقة الأفق ورجعية وغير متسامحة.”

وفي خاتمته أشار ميتشل إلى أنه فضلاً عن الجمود السياسي الحالي، فهناك خطر ضخم يحدق بالبلاد تزيد من اشتعاله وسائل الإعلام التي ترفض قبول ترامب – رغم كونه المرشح الرسمي عن الحزب الجمهوري- كمرشح شرعي للرئاسة، الأمر الذي يزيد من حدة الأزمة في الصراع على قمة السلطة.

من جهته، عرض كلايد ويلكوكس خطاباً سياسياً مختلفاً عن تحليل ميتشل التاريخي السياسي، وذلك من خلال التركيز على السباق الانتخابي الحالي والنتائج المتوقعة. فعلى الرغم من الأعباء السياسية والاتهامات التي يواجهها ترامب، فإنه يظل متقارباً في المنافسة في الكثير من استطلاعات الرأي.

وبالتالي، فإن السؤال الرئيسي الذي يحتاج لإجابة هو: ” كيف يمكن لرجل غير مؤهل لدرجة كارثية، ولا يحاول التأهل، أن يحقق هذا التقارب في نتائج استطلاعات الرأي؟” يقول ويلكوكس إن التقارب في مؤشرات استطلاعات الرأي يثير القلق، لأن دونالد ترامب، بصراحة وأمانة، غير مؤهل على الإطلاق لأن يصبح رئيسا. فهو يفتقر الى المعرفة الضرورية لكي يصبح رئيساً، ويفتقر إلى الاهتمام بالمعرفة والمعلومات … ولا يبذل أي جهد لاستمالة الناخبين الذين يحتاج لأصواتهم لكي يفوز، بما في ذلك النساء والأقليات.”

يشير ويلكوكس إلى أن استطلاعات الرأي الحالية والبيانات المتاحة تشير جميعها إلى فوز هيلاري كلينتون في الانتخابات. ولكن بيانات استطلاعات الرأي لم تكن دقيقة في الماضي، وهناك أسباب تبرر احتمالات فوز ترامب فِعْلِياً. فنتائج الانتخابات عادة ما يتم التكهن بها من خلال الاستعانة بنماذج مجردة، تتضمن عدداً من المتغيرات المتعلقة بمؤشرات اقتصادية، وأرقام تتعلق بالبطالة والتوظيف، ومؤشرات إجمالي الناتج الانتاجي المحلي. ولكن في هذه الانتخابات بالتحديد، هناك عامل رئيسي مهم إضافي يسميه ويلكوكس “حلم السنوات الثمان”، حيث أصبح الناخبون غير راضين عن الحزب المفروض عليهم ويرغبون في انتخاب بديل بهدف البدء من جديد. ومن هذا المنطلق، يقول، إنه يتوقع أن يفوز الجمهوريون في الظروف العادية للانتخابات بفارق ضئيل إذا ما كان المرشحان عن الحزبين متساويين في الشعبية والجاذبية.

لطالما ارتفعت أصوات الجمهوريين لتذكر بأن هذه الانتخابات سيكون من أهم عواملها المؤثرة الناخبون البيض المنسيون الذين يعيشون في بلدات فقيرة صغيرة، “ولكن عند النظر لبيانات استطلاعات الرأي، نلاحظ أموراً مختلفة بعض الشيء: فالمؤيدون لترامب ليسوا هؤلاء الذين فقدوا وظائفهم، فمن فقدوا وظائفهم يؤيدون هيلاري كلينتون. المؤيدون لترامب هو من الطبقة فوق المتوسطة من حيث الدخل، ليس بدرجة كبيرة، ولكنهم أعلى قليلاً من المتوسط. ومن أفضل المؤشرات على تحديد المؤيدين لترامب في الوقت الحالي هو الكراهية العنصرية”، وهو ما يدلل عليه زيادة أعداد رايات حلف الولايات الإحدى عشرة التى انفصلت عن الولايات المتحدة الاميركية في الماضي، والتي تم رفعها كرمز للكراهية.

من بين الأسباب الأخرى للفارق الضئيل في استطلاعات الرأي هو أن هيلاري كلينتون تواجه عدداً من العقبات المتراصة أمامها، بما فيها حقيقة أنها من أسرة كلينتون، وهو أسم مرادف “لبقاء الوضع السياسي على ما هو عليه” لمدة ثلاثة عقود تقريباً، فضلاً عن عدد من الفضائح الناجمة عن بعض أفعالها التي أثيرت حولها تساؤلات. فعلى الرغم من كونها “واحدة من أكثر النساء إثارة للإعجاب عندما كانت تشغل منصب وزيرة الخارجية”، يتحتم عليها أيضا التغلب على المصاعب الناجمة عن كونها مرشحة امرأة، والتصنيفات الذكورية لمزاجها، إضافة إلى الشكوك التي تحوم حول مهاراتها في اتخاذ القرارات، وإرادتها السياسية.

يقول ويلكوكس: “هي تتعرض للهجوم والانتقادات اللاذعة على الدوام من طرف الجمهوريين منذ ست سنوات، لديها أعلى معدل من النواقص من بين أي من المرشحين الرئاسيين في تاريخ الولايات المتحدة، باستثناء مرشح واحد، وهو دونالد ترامب.”

وعلى الرغم من اعتراف ويلكوكس بأن هيلاري كلينتون هي أضعف بكثير من أي مرشح عهد الديمقراطيون على تقديمه، فإنه لا يصدق أن نقاط الضعف هذه يمكن أن تجعل منها رئيسة رديئة للولايات المتحدة. ويضيف إن الولايات المتحدة هي دولة تتعرض للاستقطاب على أسس حزبية، حيث يعتاد الكثيرون على التصويت لنفس الحزب في كل مرة.

ولكن في هذه الحالة، أصبح ترامب عبئا سياسيا ضخما لا يمكن التكهن باتجاهه لدرجة أن الكثيرين من عتاة الجمهوريين قد أعلنوا صراحة عن خيبة أملهم في مرشح الحزب، واختار الكثيرون منهم التصويت لهيلاري كلينتون الامر الذي يزيد من عدم استقرار الحزب الجمهوري.    

في الختام، يقول ويلكوكس، إنه بينما يجاهر الكثيرون من مؤيدي ترامب بآرائهم ودعمهم له بفخر وزهو، فمن الممكن أيضا أن يكون هناك الكثيرون الذين يعتزمون التصويت لترامب، ولكنهم في الواقع يشعرون بالخزي أن يعلنوا عن نواياهم على الملأ، وهو ما يغير بيانات استطلاعات الآراء على نحو مضلل.  

في الوقت نفسه، فإن دونالد ترامب قد تنبأ بأن الانتخابات ستزور إذا فازت هيلاري كلينتون، وشجع مؤيديه على تحدي مؤيدي كلينتون ومواجهتهم في حالة خسارته. ويقول ويلكوكس إنه إذا فازت كلينتون بالفعل، فمن المتوقع أن يعقد الجمهوريون جلسات استماع ومداولات لمقاضاة وعزل كلينتون خلال عام واحد. وعلى أية حال، يخلص ويلكوكس: “خرجت باستنتاج متشائم بشأن مستقبل السياسة الأمريكية، إنها أقبح انتخابات أشهدها طوال عمري، وآمل أن يقول أبنائي إنها كانت أسوأ انتخابات عاشوها في حياتهم أيضاً وهم على سرير الموت”.

 

المقال بقلم سوزي ميرغني، مدير ومحرر مطبوعات مركز الدراسات الدولية والإقليمية.