روبرت ليبر: لماذا يخطئ أصحاب نظرية انحدار أمريكا
قدّم روبرت ليبر، أستاذ الشؤون الحكومية والدولية في جامعة جورجتاون، واشنطن، الحوارية الشهرية لمركز الدراسات الدولية والإقليمية في يناير تحت عنوان “لماذا يخطئ أصحاب نظرية انحدار أمريكا”.
درس ليبر طبيعة التعليقات المتكررة حول تراجع دور أمريكا، في الداخل الأمريكي وخارجها، وأشار إلى أن النقاد لطالما تنبأوا بانهيار الولايات المتحدة لعقود مضت. حيث ألهبت الأزمة المالية الراهنة وآثارها على الاقتصاد الأمريكي وقوة أمريكا الجيوسياسية جذوة تلك الانتقادات مجدداً، ولكن الولايات المتحدة، كما قال، مرّت بما هو أسوأ بكثير من ذلك في تاريخها، وتمكنت من تخطي عقبات أعظم.
وباستعراض تاريخ النكسات المختلفة التي خبرتها الولايات المتحدة، أوضح ليبر أن “ادعاءات أصحاب هذه النظرية قد ظهرت منذ تأسيس أمريكا.” ومن أهم تلك النكسات ما مرت به أمريكا في ثلاثينيات القرن الماضي، حين عرفت أسوأ أزمة مالية لها وانهياراً اقتصادياً شاملاً. في تلك الفترة، بلغت نسبة البطالة ربع القوة العاملة في أمريكا، مع هبوط كبير في الناتج القومي الإجمالي. وكانت تلك، كما قال، أزمة عميقة حدت بالكثير من المثقفين المعروفين إلى التساؤل عن مدى قدرة “النموذج الليبرالي الديمقراطي” على الصمود أمام الأزمات.
وتم التشكيك بالولايات المتحدة الموصوفة بالقوة الأعظم في العالم مرة أخرى في خمسينيات القرن الماضي بعد إطلاق السوفييت للقمر الصناعي “سبوتنيك” بنجاح، “وكانت المرة الأولى التي يخترق فيها جسم من صنع البشر مدار كوكب الأرض.” وأظهر ذلك الحدث تفوق السوفييت في مجال تحريك الصواريخ و”قدرتهم على إطلاق صواريخ بالستية عابرة للقارات” مما أثار قلقاً يشي بأمريكا راكدة ومتأخرة في مجال السير العلمي.
وعلى نحو مشابه، أُنكر تفوق أمريكا في سبعينيات القرن الماضي مع انسحابها من فييتنام، وغزو السوفييت لأفغانستان والاستيلاء على السفارة الأمريكية في طهران. وفي الثمانينيات والتسعينيات، قورنت الولايات المتحدة دون تردد مع اليابان، التي اكتسبت احتراماً عالمياً متزايداً كمثال للنجاح والتطور العلمي. وقال ليبر “لعل من الصواب مقارنة حجج وادعاءات نظرية الانحدارالجديدة مع الأفكار التي كانت سائدة في فترات سابقة.” وأوضح ليبر أن المقولات الراهنة لأصحاب نظرية الانحدار نجمت عن مزاعم تاريخية ومبالغ بها. وعلى وجه التحديد، تكشف تلك المقولات عن “قلّة تقدير لتماسك الولايات المتحدة وقوتها.”
وفي معرض بحثه للادعاءات الراهنة لأصحاب نظرية الانحدار، أشار ليبر إلى توافق واسع على ادعاءين أساسيين. يفترض الأول معاناة الولايات المتحدة من تراجع محلّي في اقتصادها، وقوتها السياسية، والروح العامة لشعبها. ويفترض الثاني تراجع أمريكا من موقع القوة الأكبر عالمياً إلى واحدة من قوى متكافئة بسبب العولمة التي أنشأت عالماً متعدد الأقطاب، والقوى الأخرى المتعاظمة والتي بدأت تشكل توازناً معها.”
خلال فترة حكم “بوش”، وما بعد الحرب في العراق، لم يشَر إلى فقدان أمريكا سيطرتها فحسب، بل كذلك إلى فقدان شرعيتها. ونُسب إضعاف الولايات المتحدة إلى “التمدد العسكري المفرط”، وتورطها في حربين مكلفتين في العراق وأفغانستان. وردّ ليبر على تلك الانتقادات المتعلقة بالتكاليف العسكرية الباهظة بالقول إن “مجموع ميزانية أمريكا العسكرية يبلغ اليوم نحو 4.5% من الناتج المحلي الإجمالي البالغ 14 تريليون دولار. بحساب ذلك بشكل مطلق يبدو المبلغ هائلاً، لكنه يعدّ متواضعاً بحساب نسبيّ، وبالمقاييس التاريخية.”
وتشمل التحديات الراهنة التي تواجهها الولايات المتحدة، برأي ليبر: الطبيعة المسنّة للمجتمع الأمريكي، والتي من شأنها التسبب في ضغوط كبيرة على البنى التحتية للبلاد، خاصة فيما يتعلق بنظام الرعاية الصحية والضمان الاجتماعي، ومواصلتها الاعتماد على استيراد النفط، والاستقطاب السياسي، والعجز في الموازنة السنوية، والدين القومي الضخم، وكذلك المشكلات المستقبلية التي ستواجهها الولايات المتحدة فيما يتعلق بنهوض الصين.
واختتم ليبر بالقول: إن “المشاكل الأمريكية حقيقية، ومن السخف إهمالها، لكنني أضيف أن بلادنا مرت بمشاكل عديدة” وأنها تغلبت عليها بتعزيز مناخ استثنائي لريادة الأعمال. “التنافسية في أمريكا، والبنية التحتية للأبحاث العلمية فيها، وجامعاتها، والتزامها بمبادئ التنافس والأسواق الحرة، وأسواقها الرئيسية الفعالة، كل تلك عوامل هامة تعزز المناخ المذكور.”
وبغرض التأكيد على أن مخاوف أصحاب نظرية الانحدار مغالية ومبالغ بها، أوضح ليبر أنه “منذ بدايات السبعينات من القرن الماضي، شكّل الاقتصاد الأمريكي نسبة راوحت بين خُمس وربع الاقتصاد العالمي كله.” وتجاوز النمو الاقتصادي فيها المعدلات العالمية بشكل كبير منذ ذلك الوقت.
وفي الفترة المخصصة للأسئلة بعد انتهاء المحاضرة، سئل ليبر فيما إذا كانت الأحادية وسياسة الاستباق الأمريكية، والتي أدت في عهد بوش إلى انحدار موقع أمريكا العالمي، ونهوض الحركات المعادية لها، وتآكل القوة الأمريكية الناعمة عالمياً، قد وافقت المصلحة الأمريكية. ورد بتأكيده على لعب أمريكا دوراً فريداً، لا يمكن لأحد سواها، لا الآن ولا في المستقبل، أن يلعبه في مواجهة المشكلات العالمية الأكثر إلحاحاً وخطراً.” وأضاف أن المشكلة الأساسية في تجنب انحدار أمريكا في الداخل والخارج، تتعلق بالمؤسسات والإرادة السياسية، أكثر مما تتعلق بمشكلة مادية.
يعد روبرت ليبر صاحب رأي مؤثر في السياسية الخارجية الأمريكية، والعلاقات الأمريكية مع الشرق الأوسط وأوروبا، ويحمل منحاً جامعية عدة من مؤسسات جوجينهام، وروكفيللر، وفورد، ومجلس العلاقات الخارجية، ومركز وودرو ويلسون للبحوث. كما درّس في جامعات هارفارد، وأكسفورد، وجامعة كاليفورنيا ديفيس.
المقال بقلم: سوزي ميرغاني، مدير ومحرر المطبوعات في مركز الدراسات الدولية والإقليم