رفض الزي الموحد: نشاط النساء المهاجرات والنساء المنحدرات من أقليات عرقية في الدانمرك في الفترة 1967-1997

1

قام مركز الدراسات الدولية والإقليمية بدعوة إيما موجنسن، الطالبة في جامعة جورجتاون في قطر (دفعة 2018)، لعرض أطروحة التخرج الخاصة بها وتحمل عنوان Refusing the Uniform: Immigrant and Ethnic Minority Women’s  Activism in Denmark, 1967–1997 (رفض الزي الموحد: نشاط النساء المهاجرات والنساء المنحدرات من أقليات عرقية في الدانمرك في الفترة 1967-1997)، وذلك في محاضرة عامة بتاريخ 19 مارس 2018، سلّطت الضوءَ فيها على فترة نشطة في تاريخ الدانمرك يتم عادةً إغفالها والتغاضي عنها. وقد شكّلت المحاضرة إيذانًا رسميًا بانطلاق برنامج التقدم البحثي للطلاب الجامعيين التابع لمركز الدراسات الدولية والإقليمية (كيورا). 

شهدت فترة الثلاثين سنة الممتدة بين عامي 1967 و1997 نموًا هائلاً في نشاط النساء المهاجرات والنساء المنحدرات من أقليات عرقية في الدانمرك. ونظرًا لخيبة الأمل التي لازمتهن بسبب وضعهن الاجتماعي وظروفهن الاقتصادية، شرعت النساء المهاجرات من أقليات إثنية متعددة بحشد جهودهن للوقوف في وجه التمييز بحقهن. درست إيما تلك الفترة وقامت بتحليل مطبوعاتٍ نشرتها منظمات النساء المهاجرات من أواخر الستينات وحتى مطلع الألفية الجديدة. واستهلّت إيما ذلك بسرد قصة من عام 1975 تصوّر حكاية سيدتين باكستانيتين في الدانمرك حُرمتا من إعانات البطالة بسبب رفضهما لعرض عمل. نفت السيدتان ذلك وقالتا إن الرفض لم يكن رفضًا بالمعنى الحرفي للكلمة، فقد عرضت الفنادق الدانمركية عليهما وظيفتين تفرضان ارتداء تنورة قصيرة، وذلك في تناقضٍ تامّ مع الأعراف الاجتماعية التي نشأن عليها. 

وبما أنهما كانتا عضوتين في النقابة، كان يُتوقع من نقابة النساء العاملات الوقوف إلى جانبهما في تلك القضية. غير أن النقابة لم تفشل فقط في مجابهة “السياسات التمييزية القائمة على أساس الجنس المتأصلة لدى الفنادق التي كانت تطلب من النساء ارتداء ملابس غير محتشمة”، بل وعاقبت السيدتين لرفضهما عرض العمل وارتداء الزي المطلوب. وفي مقالة نشرتها مجلة The Foreign Workers (مجلة العمال الأجانب)، لمّحت النقابة إلى توتر أوسع نطاقًا بينها وبين النساء المهاجرات. كما عمّمت الناطقُ باسم النقابة رفض السيدتين بوصفه بأنه “رمزية مزعومة لسلوك إشكالي لدى النساء المهاجرات”، وأضافت تقول: “في حال قبلنا هذه الأعذار التي يتذرع بها الأجانب فإننا عندئذٍ نمارس التمييز بحق الدانمركيين، في حين أننا نرغب في أن نتعامل مع الجميع على قدم المساواة”. وهذه تعليقات لافتة للنظر لأن حركة النساء الدانمركيات ونقابة النساء العاملات كانتا تنشطان بقوة، طيلة عقود قبل تلك الحادثة، في الدفاع عن المساواة في الأجور وحق الجميع في الاستفادة من مرافق رعاية الأطفال. 

 

“لقد تحدّت النساء المهاجرات والسيدات المنحدرات من أقليات عرقية المنظمات النسائية الدانمركية والنقابات العمالية والسياسيين بين عامي 1967 و1997، وذلك عبر التزامهن بمكافحة الأشكال المتقاطعة للتمييز”. 

قالت إيما إنّ “النقد الصادر من نقابة النساء العاملات دلّ ضمنًا على عجزها عن رؤية النساء الباكستانيات على قدم المساواة مع النساء الدانمركيات من حيث التعرض لتحدياتٍ متشابهة على مستوى النظام ككل”، وأضافت أن ذلك النقد عبّر عن موقفٍ “تسلّطي”، حيث كشف عن معاملةٍ إقصائية من جانب النقابة بحق النساء المهاجرات بالرغم من التزامهن بتعزيز عرى التضامن مع المرأة. وفاقم هذا الوضعَ الاتهامُ الذي وجّهته الجالية الباكستانية للنقابة بأنها قامت متعمدةً بخداع النساء الباكستانيات لإلغاء إعانات البطالة المستحقة من منطلق أنها هي التي قامت بتأمين تلك الوظيفة لهن. وبالرغم من أننا لا نعرف إلامَ انتهى الأمر، قالت إيما إن هذه الحادثة تؤشّر على التوتر الواقع آنذاك بين المهاجرين والنقابات الدانمركية من جهة، وبين النساء المهاجرات والمنظمات النسائية الدانمركية من جهة ثانية. أما حجّة إيما الرئيسة فكانت أن “النساء المهاجرات والنساء المنحدرات من أقليات عرقية قمن بتحدي المنظمات النسائية الدانمركية والنقابات العمالية والسياسيين بين عامي 1967 و1997، وذلك عبر التزامهن بمكافحة الأشكال المتقاطعة للتمييز”. فقد دفعن باتجاه فهم أعمق للأشكال المختلفة والمتزامنة للتمييز في المجتمع الدانمركي القائمة على أساس الجنس والعِرق والطبقة الاجتماعية وغيرها. وكذا قامت الناشطات المهاجرات بإقامة شبكات علاقات دولية مع النساء المهاجرات والمنظمات النسائية بهدف فهم كيف أن الأنظمة القمعية، كالتحيّز الجنساني، لا تقتصر على مناطق بعينها دون أخرى.        

 كما شرحت إيما أن النساء المهاجرات عانين من تمييز مزدوج على أساس العِرق والإثنية معًا، وساقت مثالاً على ذلك الاقتباس التالي الذي ورد في أحد أعداد مجلة النساء المهاجرات الدانمركية لعام 1989: “إن الاضطهاد الذي نرزح تحته اضطهادٌ مضاعف، بوصفنا نسوة وبوصفنا سوداوات”. وها هو مصطلح “التقاطع” بين أشكال التمييز يُستخدم اليوم لوصف تلك الظاهرة، وهو مصطلحٌ لم يكن متداولاً في الدانمرك في ثمانينات القرن العشرين، وخاصة فيما يتصل بقضايا العِرق والإثنية.      

اعتادت الدانمرك على استقبال المهاجرين لعدة قرون، ولكنّ أواخر ستينات القرن العشرين شهد منعطفًا في تاريخ الهجرة الدانمركي تلخّص في ظهور ’برنامج العمال الضيوف‘. فعلى شاكلة أمم أوروبا الغربية الأخرى، شهدت الدانمرك بُعيد الحرب العالمية الثانية انتعاشًا اقتصاديًا دفع أرباب العمل لاستقطاب عمالة أجنبية لتلبية الاحتياجات المتنامية لسوق العمل. لكن الاقتصاد الدانمركي ما لبث في عام 1973 أن دخل مرحلة ركودٍ حاد نجم عنه ارتفاعُ نسب البطالة جرّاء أزمة النفط العالمية وقتئذٍ. دفع ذلك الوضعُ البرلمان الدانمركي لفرض قيود على تدفق المهاجرين، ثم ما لبث في أواخر تلك السنة أنْ سنّ قانونًا يلغي هجرة العمالة تمامًا.      خشي أرباب العمل أن تترك العمالة المهاجرة البلاد وتعود إلى عائلاتها فشكّلوا مجموعة ضغط دفعت باتجاه استحداث مسارات قانونية تمكّن هؤلاء من استقدام زوجاتهم وأطفالهم، وأثمرت تلك الجهود في عام 1974 عندما أجاز البرلمان قانونًا جديدًا للمّ شمل العائلات. ساهم ذلك القانون الجديد، وما تلاه من قبول الدانمرك استضافة اللاجئين على أراضيها، في دخول الكثير من الناشطات المهاجرات إلى البلاد. أما أول فترة شهدت قيام النساء المهاجرات بحشد جهودهن فانطلقت شرارتها من مكافحة التمييز الذي مارسته النقابات العمالية والمنظمات النسائية الدانمركية. كانت أنشطة تلك النساء الأوائل عفويةً ومحددةَ الإطار، حيث تمحورت حول جماعات إثنية أو لغوية منفردة، لكن معارضتهن لذلك التمييز فَضَح السياسات المنافقة والمتناقضة التي كانت تدّعي نظريًا بدعم العاملات المهاجرات، مثلما تبيّن في حالة نقابة النساء العاملات.          وفي أواخر ثمانينات القرن العشرين كثّفت النساء المهاجرات في الدانمرك جهودهن في مسعى لإنشاء عدد أكبر من المنظمات الدائمة متعددة الإثنيات. وبدلاً من العمل في أطر محددة، قمن بوضع أسس مؤسسية سمحت لهن بالتصدي لقضايا النساء المهاجرات بصورة أكثر شمولية، على حدّ وصف إيما. ففي حين ناقشت الناشطاتُ الأوائل المصادر المتعددة للتمييز، وذلك اعتبارًا من أواخر الثمانينات، قمن لاحقًا بوضع التقاطع بين أشكال التمييز في محور أنشطتهن. وبفضل تلك المنظمات تمكنّ أيضًا من إقامة صلات مع الحركات النسوية الدولية القائمة. 

وأولى تلك المنظمات كانت منظمة سولدو (Soldue) التي أسستها عام 1988 مجموعة متنوعة من النساء المهاجرات، وتمحور عملها حول تبادل التجارب لا التركيز على اختلاف الجنسيات. كما ركزت المنظمة على مسألة التقاطع وانتقدت التمييز الذي مارسته السلطات والمنظمات النسائية الدانمركية بحق النساء المهاجرات. واستخدمت بعض السيدات المجلةَ التي تصدرها المنظمة لمناقشة التمييز بين الجنسين في مجتمعاتهن. فقد أدركن منذ البداية أن العنصرية والتحيّز الجنساني قضيتان متشابكتان. واعتبارًا من عام 1993 بدأت جهودهن تعطي أُكُلها في التأثير على التشريعات الدانمركية ثم تسخير ذلك التأثير في سياسات الهجرة من خلال التعاون مع مجموعات النساء الدانمركيات والحكومة. كان من بين موضوعات المناصرة التي قامت بها منظمة سولدو ’قاعدة السنوات الثلاث‘ التي شرّعها قانون الأجانب لعام 1983. فقد انتقدت المنظمة بحدّة قيام القانون بتقييد الوضع القانوني للنساء الأجنبيات في البلاد عبر ربطه بالأزواج، فحاججت أن القانون أضعف موقفهن وجعلهن عرضةً لسوء المعاملة المنزلية، سيّما وأن هجر الشريك المسيء قبل إتمام السنوات الثلاث قد يفضي إلى ترحيلهن من البلاد. وبحسب المنظمة، كان سوء المعاملة المنزلية شائعًا في كل مكان، وكان يُفترض بالقانون أن يحمي النساء المهاجرات مثلما يحمي النساء الدانمركيات. وفي عام 1993 تم تعيين المنظمة في عضوية اللجنة الخاصة المعنية بالوضع القانوني للنساء المهاجرات في الدانمرك التي شكّلتها وزارة الداخلية. وفي نهاية المطاف أدرج البرلمان توصيات تلك اللجنة في قانون جديد سنّه عام 1996 وعدّل بموجبه قانون الأجانب. غير أن المنظمة لم تَقْنَع بالتنازلات المحدودة التي قدّمها البرلمان، فاستمرت ناشطاتها بانتقاد قاعدة السنوات الثلاث حتى بعد تعديل القانون المذكور، وذلك بحسب ما خلُصت إليه دراسة إيما. 

في تلك الأثناء، تزايد تأثير منظمة سولدو في الداخل والخارج، فتوسع نشاطُها ونمت شبكةُ علاقاتها الدولية. وترافق ذلك بظهور جيل جديد بدأ ينشط سياسيًا، من الأطفال الدانمركيين من أبناء المهاجرين. صحيحٌ أن هؤلاء لم يكونوا مهاجرين قطّ، إلا أنهم عانوا من أشكال مختلفة من التمييز. ورغم أنهم بنوا أنشطتهم على منجزات أسلافهم، فقد قاموا بوضع استراتيجيات جديدة منطلقين في ذلك من وضعهم كأقليات مولودة في الدانمرك. وتقول إيما في هذا الصدد إن “أكثر ما ميّز نشاطهم السياسي المتنامي السجالاتُ التي دارت حول قضية الجنسية”. 

وهكذا، قاومت النساء المهاجرات والنساء المنحدرات من الأقليات أشكالَ التمييز المتعددة التي عانين منها في المجتمع الدانمركي مقاومةً كبيرة، ومن ذلك محاججتهن بضرورة استيعاب كيفية تقاطع الأشكال المتنوعة للتمييز بعضها مع بعض. كما تعاونّ مع الحركات النسوية الدولية والناشطات وأفسحن المجال لظهور جيل جديد من الناشطات المنحدرات من الأقليات الإثنية. وهكذا، أدّى الموقف المبدئي الذي اتخذته الناشطات في عام 1975 دفاعًا عن حقهنّ برفض الأمر الإلزامي بارتداء ملابس غير محتشمة إلى “تمهيد الطريق لظهور جيل جديد من الناشطات المنحدرات من الأقليات الإثنية في الدانمرك اعتبارًا من تسعينات القرن العشرين”، بحسب وصف إيما.  

إيما موجنسن طالبة دانمركية في السنة الرابعة، تخصص التاريخ الدولي، بجامعة جورجتاون في قطر. انتقلت إلى قطر في العام 2009، وتعمل بصفة مساعد بحوث في مركز الدراسات الدولية والإقليمية بالجامعة، حيث أجرت عددًا من البحوث حول قضية الهجرة الدولية من بينها بحثٌ حول المواطنة والعمالة الوافدة في دول مجلس التعاون الخليجي. وتتمحور اهتماماتها البحثية حول قضايا الهجرة وشبكات الناشطات العابرة للحدود الوطنية، إلى جانب التصورات العالمية عن مسألتي المواطنة والنسوية. 

بقلم: خنسا ماريا ، طالب مساعد في مركز الدراسات الدولية والإقليمية بجامعة جورجتاون في قطر