العدالة الانتقالية في الشرق الأوسط

العدالة الانتقالية في الشرق الأوسط

التقى خبراء إقليميون ودوليون في الاجتماع الافتتاحي لمبادرة مركز الدراسات الدولية والإقليمية البحثية “العدالة الانتقالية في الشرق الأوسط” خلال يومي 15 و 16 فبراير 2014. ففي حين أُجري الكثير من الدراسات العلمية في مجال العدالة الانتقالية في مناطق أخرى من العالم، بثت التحولاتُ السياسية الأخيرة في المنطقة الطاقةَ في الدراسات التي تتناول ظهور آليات العدالة الانتقالية وتطبيقاتها في الشرق الأوسط. وقد ناقش المشاركون في فريق العمل متعدد التخصصات مواضيع مختلفة راوحت بين الأسس النظرية للعدالة الانتقالية ونطاقها ودراسة حالات محددة من الممارسات التي تمت في الشرق الأوسط، والمتعلقة بالمصالحة، والعدالة التصالحية والجزائية.

في بداية مناقشتهم مسألة العدالة الانتقالية في الشرق الأوسط، ركز المشاركون على التجارب السابقة والحالية لدول من مختلف أنحاء العالم، بغية التعرف على أبرز الدراسات التي أجريت في هذا المجال. غير أن دراسة العدالة الانتقالية من منظور مقارن كشفت أن تقييم أثرها ليس بالأمر السلس، كما أن أهداف العملية نفسها لاتزال غير ثابتة. فضمن العدالة الانتقالية هناك عدد لا يحصى من الأهداف المتصلة بالعدالة الجزائية، والردع، والدفاع عن الضحايا، والمصالحة والتي قام كل من الممارسين والأكاديميين بالإشارة إليها ومناقشتها. ومع ذلك، لايزال كل من تلك الأهداف بعيد المنال بالنسبة للمستهدفين، ما الشكل الذي تتخذه تلك الأهداف، وما هي الآليات والمؤسسات التي تقوم بمعالجتها؟ ففيما يتعلق بالدفاع عن الضحايا على سبيل المثال، يزيد من تعقيد الأهداف تنوعُ الضحايا وتغير متطلباتهم بمرور الوقت.

علاوة على ذلك، ليس من الواضح كيف يحدد الممارسون والباحثون العدالة التي تركز على الضحية. ففي بعض الأحيان، وخاصة في القانون والتعاليم الإسلامية، يوجد توتر بنيوي بين الصفح والمصالحة المجتمعية والحقوق الخاصة بالعقاب بالنسبة لكل ضحية على حدة. ويمكن للمقاربة التي تركز على الضحية أن تدافع بنشاط أكبر عن حق الفرد بالعدالة. بالإضافة إلى ذلك، يعدّ نطاق العدالة الانتقالية أيضا قضية متنازعاً عليها. فبينما كانت في الماضي تدور حول المساءلة عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان – خاصة فيما يتعلق بالأضرار الجسدية – فقد وسعت نطاق اختصاصها بحيث صارت ترتبط على نحو متزايد بسياسات التنمية، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وقد برز هذا بوجه خاص في سياق الانتفاضات الأخيرة في الشرق الأوسط، حيث تم وضع المسؤولية الجنائية عن الفساد المالي والسياسي على جدول أعمال العدالة الانتقالية.

ويكمن قسم من صعوبات تحديد أهداف العدالة الانتقالية وتقييم آثارها في مسألة المحلية في مقابل وضع اليد الدولية على عملياتها. فمنذ التسعينات صارت قيادةُ عمليات وآليات العدالة الانتقالية وتمويلُها دوليةً إلى حد كبير. وهكذا، فإن تقييم من أين يأتي الطلب على الأهداف المختلفة، ومستوى تحكم السلطات المحلية بتلك الأهداف تعدّ من المسائل الحيوية عند مناقشة دراسات الحالة للعدالة الانتقالية، وآثار كل منها. وفي الوقت نفسه، تطرح ديناميات السلطة المحلية القائمة التي تعبر عن المطالب أيضاً تساؤلات من قبيل: لماذا يدافع فاعلون معينون عن حدود زمنية معينة للعدالة الانتقالية، بينما تدعو آليات ومؤسسات مختلفة للتعامل مع مظالم الماضي. فقد دعت الأحزاب السياسية والجهات الفاعلة التي تحملت وطأة القمع الذي مارسته الدولة منذ الاستقلال في تونس، وخاصة حركة النهضة، إلى حدود زمنية أطول للعدالة الانتقالية سابقة على نظام بن علي والعودة إلى مرحلة تأسيس الدولة التونسية في عام 1956. ومن الواضح أن النهضة، باختيارها حدوداً زمنية طويلة للعدالة الانتقالية، تسعى إلى “تفكيك الروايات الحداثية” لكل من بن علي وبورقيبة، وإلى نزع الشرعية عن النظام السياسي الأقدم. وقد سعت جماعات أخرى، مثل النساء اللواتي وقعن ضحايا لقمع الدولة، إلى تصحيح الروايات التاريخية عن الحركة النسوية التونسية وتبني حقوق المرأة التي تعد في تونس أكثر تقدماً من مثيلاتها في العالم العربي. وتسعى نساء النهضة ونصيراتهن بنشاط في هذه المرحلة الانتقالية لتقديم روايات دقيقة حول أوضاع النساء التي كانت قائمة في تونس أيام حكم زين العابدين بن علي عن طريق التحدث علناً عن الظلم بين الجنسين.

الذكريات والروايات عن الماضي هي جزء لا يتجزأ من عملية انتقال مجتمع ما بعد الصراع. هناك عمليات أكثر رسمية لقول الحقيقة والتعامل مع الماضي مثل لجان الحقيقة والمصالحة والمحاكمات والمحاكم. وعلى الرغم من أن العديد من هذه العمليات واضحة فقد تم اعتمادها من قبل الدولة. وتشمل العمليات غير الرسمية الأخرى المجتمع المدني، والإنتاج الثقافي والروايات غير المسجلة. في تعاملهم مع الماضي، ناقش المشاركون تحديداً الاستشهادية في شمال أفريقيا ودورها في الفترات الانتقالية، حيث يوظَّف الشهداء في جهود بناء الدولة وفي جداول الأعمال السياسية للفاعلين السياسيين، لإثبات كيف يخدم الماضي وضع جدول أعمال للمستقبل. فقد استندت جبهة التحرير الوطني في الجزائر، على سبيل المثال، في كثير من الاستراتيجيات السياسية على المجاهدين أو الشهداء. وفي تونس وظَّف مواطنو الدولة الشهداء من خلال دعوتهم إلى جبر الأضرار الجماعية لأولئك الذين لقوا حتفهم خلال الاحتجاجات وعززوا في الوقت نفسه رؤية فرعية للدولة كما ظهر في شعار “حق الثورة”.

ارتبط التطور الدستوري في جميع أنحاء العالم في مختلف المراحل الانتقالية بعد انتهاء الفظائع بعملية العدالة الانتقالية. ففي التعامل مع المظالم الماضية والتخطيط للمستقبل، توفر الدساتير منهجاً لبناء السلطة وتشكيلها وتحديدها. وقد ناقش المشاركون في فريق العمل المثال الناجح للتنمية الدستورية في مرحلة ما بعد الفصل العنصري في جنوب أفريقيا والتسلسل الخاص لهذه العملية. افترض التعامل مع مظالم الماضي أن عملية العدالة الانتقالية هي عملية انتقائية تبرز بعض المشاكل والجهات الفاعلة وتستبعد أخرى. ففي حين يمكن للعدالة الانتقالية تفضيل معالجة قضايا الجماعات التي قُمعت سابقاً، يمكنها أيضا إنشاء العقبات التي تحول دون تناول بعض القضايا بتهميشها أثناء العملية الأولية. كما يمكن إلحاق الضرر بتلك القضايا عن طريق اجتراح حلول خاصة قد تصبح إشكالية للمجتمع على المدى الطويل. وقد تساءل المشاركون عما إذا كانت هناك مفاضلة بين توقيت العدالة الانتقالية وعمقها. ففي مثال جنوب أفريقيا صاغت الحكومة التوافقية دستوراً مؤقتاً. على النقيض من ذلك خلقت الميليشيات في ليبيا شكلاً “ضحلاً” للعدالة في الوضع الراهن، حيث اتخذ العزل السياسي لأعضاء النظام السابق شكلاً أسوأ من اجتثاث البعث في العراق. وناقش المشاركون كذلك كيف يمكن أن تشكل القيودُ الهيكلية المتعلقة بالنظام القديم تحديات تواجه التنمية المؤسسية وتعزيز حقوق الإنسان – وهما مجالان من المجالات التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً مع عمليات العدالة الانتقالية. وحيث يتورط قطاع الأمن في انتهاكات حقوق الإنسان ويفتقر إلى المساءلة، يغدو إصلاحُ القطاع الأمني ​​ نقطةً محورية في التطوير المؤسسي. ففي مصر أعاق الدورُ المهيمن المستمر للجيش جهودَ إصلاح القطاع الأمني، ذلك الإصلاح ​​الذي ينبغي أن يعنى بأمن المواطن وأمن الإنسان بوجه خاص بدلاً من أمن القوى الحاكمة. وعلى الرغم من أن العدالة الانتقالية تعزز تطوير الدساتير والإصلاح المؤسسي إذا ما أنشأت أنظمة تتماشى مع القيم التي تعود بالفائدة على المجتمعات في المدى الطويل، فإنها تعتمد كذلك على العديد من العوامل الحيوية.

أثناء مناقشتهم التطور الدستوري والانتقال، لاحظ المشاركون الافتراض الخاطئ بأن العدالة الانتقالية ترتبط بدمقرطة المجتمع، وأن نقطة نهاية عملية الانتقال هي في إقامة النظام الديمقراطي الليبرالي. ففي بعض الحالات مثل ملكيات البحرين والمغرب، تم في الواقع تطبيق آليات العدالة الانتقالية دون التمهيد للانتقال السياسي. ومن الواضح في هذه الحالات أن الديمقراطية ليست هي الهدف النهائي، بل قد يمكِّن تنفيذُ هذه الآليات الملوكَ من تحقيق مكاسب سياسية محلياً ودولياً على حد سواء. وفي غياب التحول السياسي تمت مناقشة مدى فعالية لجان الحقيقة ولجان التحقيق في المغرب والبحرين على التوالي. وبالإضافة إلى تطبيق آليات العدالة الانتقالية في البلدان التي لم تشهد تغيراً سياسياً، ناقش المشاركون أيضا خططاً للعدالة الانتقالية في حالات النزاع المستمر – وعلى وجه التحديد في سورية، حيث صاغ أعضاء المعارضة بالفعل خططاً مفصلة للعدالة الانتقالية.

كتبت المقال دعاء عثمان، محلل البحوث في مركز الدراسات الدولية والإقليمية