السياسة الخارجية الأمريكية في الميزان
دعا مركز الدراسات الدولية والإقليمية ريتشارد راسل، الأستاذ في جامعة الدفاع الوطني في واشنطن العاصمة، إلى إلقاء محاضرة في 27 يناير 2019 بعنوان “السياسة الخارجية الأمريكية في الميزان” سلّط الضوء فيها على السياسة الخارجية لإدارة ترامب. ونوّه في البداية إلى أن منتصف فترة ولاية ترامب في منصبه يعدّ منعطفًا مناسبًا لتقييم السياسة الخارجية لإدارته، ولكن لا يزال يتعذر تحديد عقيدة نهائية لها. وقال راسل: “من الصعب حقًا أن أميّز “عقيدة ترامب”، أقصد إلى جانب “جعل أمريكا عظيمة من جديد” أو “أمريكا أولاً”. “ربما يجسد ذلك نبرة السياسة الخارجية لإدارة ترامب، لكنه لا يمثل في رأيي محتوى”.
واستعان راسل في تحليل اتجاه السياسة الخارجية لترامب بنظريتين من نظريات العلاقات الدولية: الواقعية والليبرالية، لكنه ألمح إلى أن من الصعب وصف ترامب بالواقعي أو الليبرالي لأن الرئيس لا يوافق أيًا من المدرستين. وأوضح راسل أن ترامب ليس ليبراليًا لأنه لا يعبأ بالديمقراطية العالمية. فعادةً ما تروّج الولايات المتحدة للديمقراطية في الخارج لتقليل المخاطر الدولية إلى الحد الأدنى، لكن ترامب “لا يروّج للديمقراطية، ولا يحفل بها، ولا يحترمها. والواقع أنه يفضّل شخصيًا الدول الاستبدادية” مثل تركيا ومصر والمملكة العربية السعودية. علاوة على ذلك، أوضح راسل أن ترامب أقصى زعماء الديمقراطيات الغربية، بما في ذلك السلطات الفرنسية والألمانية والبريطانية.
حاجج راسل كذلك بأن ترامب لا يوافق النموذج الليبرالي بسبب “ازدرائه للمؤسسات المتعددة الجنسيات”، كما اتضح من انسحابه من اتفاق باريس بشأن تغير المناخ واحتقاره لمنظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو). وقال إن الرئيس أغلظ القول في حق الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية والبنك الدولي، وهي مؤسسات دولية أضحت جزءًا من نسيج العلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، الذي يعزز الاستقرار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي على الصعيد الدولي.
ترامب “لا يروّج للديمقراطية، ولا يحفل بها ولا يحترمها. والواقع أنه يفضّل، شخصيًا، الدول الاستبدادية “.
وأوضح راسل أن ترامب لا يناسب أيضًا النموذج الواقعي. فقد يَعُدّ البعض الرئيس واقعيًا، لكن ترامب ليس لديه أي تقدير لموازين القوى الدولية. وقال راسل إن الدول القومية توزان القوة لمنع اندلاع العنف الدولي وفقًا للنظرية الواقعية، لكن ترامب لا يعمل من أجل ذلك. فبينما يساوره القلق من السياسة التجارية للصين، مثلاً، فإنه لا يقوم بالموازنة العسكرية أو السياسية مع الصين. وبالمثل، فإن الرئيس لم يحقق التوازن مع روسيا في أوروبا أو الشرق الأوسط. ومن المفارقة، في رأي راسل، أنه في حين أن وثائق إدارة ترامب تجسّد الواقعية، فإنها “لا تشبه بأي حال من الأحوال ما يتحدث عنه الرئيس ترامب”.
وبيّن راسل أن ترامب يفكر من خلال العلاقات الثنائية ويؤكد أهمية الدول القومية على حساب التحالفات المتعددة الفاعلين. وقال راسل: “صحيح أن الدولة القومية تمثل ذروة السلطة في المجتمع الدولي، لكن جميع الدول القومية تعمل في شبكة من المبادلات الاقتصادية والسياسية والثقافية المترابطة”، وليس لدى ترامب استعداد حتى للاعتراف بهذه الحقيقة. على سبيل المثال، بدلاً من التواصل مع اليابان وكوريا الجنوبية، اللتين تربطهما بالولايات المتحدة تحالفات رسمية، يركز ترامب على الحوار مع كوريا الشمالية. وقال راسل: “ليست هذه هي الطريقة التي يمكن بها تيسير تنفيذ الالتزامات الرسمية التي تعهدت بها الولايات المتحدة مع شركاء الأمن في آسيا”.
وعادةً ما يحيط رئيس الولايات المتحدة نفسه بأشخاص يشاطرونه فلسفته أو نظرته للعالم، لكن حكومة ترامب منقسمة على نفسها، كما أشار راسل. فقد رفض العديد من الجمهوريين التقليديين دعم ترامب حتى قبل انتخابه. لذلك، اعتمد على موظفي الكونغرس والعسكريين لشغل مناصب في إدارته مذيبًا بذلك الحدود الفاصلة بين الحكومة العسكرية والمدنية. وقال راسل إن هذا الأمر، بالإضافة إلى استبعاده مستشارَين للأمن القومي خلال عامين، يجعله يعمل مع فريق شديد التصدع وعديم الفعالية. وأضاف قائلاً: إن العمل المشترك بين الوكالات – عملية صنع القرار المتعددة الطبقات التي استعانت بها السلطة التنفيذية في جميع الإدارات الأخيرة – ينهار هو أيضًا. فالرئيس ترامب يتخذ القرارات المهمة، مثل الانسحاب من سوريا، دون تشاور أو خبرة نقدية، وفي تجاهل للسلك الدبلوماسي. ولا يوجد اليوم مساعد لوزير الخارجية للشرق الأوسط أو لمنطقة المحيط الهادئ أو لأوروبا، وكثيرة هي المناصب الدبلوماسية الشاغرة حاليًا.
واختتم راسل حديثه بالقول إن ترامب نجح في عزل مجتمع الاستخبارات خلال فترة وجوده في منصبه، والعلاقات المدنية-العسكرية في أدنى مستوياتها على الإطلاق. ولمّا كان الرئيس ينظر إلى الجيش باعتباره قاعدة سياسية له، وعيّن ضباطًا عسكريين لشغل مناصب الأمن القومي، “فإن هناك خطرًا يتمثل في احتمال قيام ترامب بتسييس الجيش على المستويات العليا وفي أوساط الجنود”، يقول راسل. ولاحظ راسل أنه، على النقيض من سلوك الرئيس، كان لدى الولايات المتحدة دائمًا “جيش غير مسيّس – أي أنه يخدم الدستور الأمريكي، لا الرئيس”. ولاحظ راسل، في كلمة أخيرة، أن إدارة ترامب “تحطّم الكثير من القواعد التقليدية التي سادت في كل الإدارات، الجمهورية منها والديموقراطية، في السياسة الخارجية الأمريكية”.
وأشار راسل إلى أن الآراء التي أعرب عنها خلال هذا الحديث هي آراؤه هو وليست آراء مركز الشرق الأدنى وجنوب آسيا للدراسات الاستراتيجية (NESA) أو حكومة الولايات المتحدة.
مقال بقلم الخنساء ماريا، زميلة منشورات كيورا
ريتشارد راسل أستاذ شؤون الأمن القومي بمركز الشرق الأدنى وجنوب آسيا للدراسات الاستراتيجية بجامعة الدفاع الوطني في واشنطن العاصمة. وهو أيضًا محاضر في كلية بوش للحكم والخدمة العامة بجامعة تكساس أي أند إم. حصل على درجة الدكتوراه في الشؤون الخارجية من جامعة فرجينيا، وشغل سابقًا وظائف من بينها وظيفة أستاذ مساعد للدراسات الأمنية في كلية إدموند والش للدراسات الخارجية والأبحاث بجامعة جورجتاون وباحث مشارك في معهد جورجتاون للدراسات الدبلوماسية. صدرت له ثلاثة كتب عن الاستخبارات والسياسة الخارجية الأمريكية وانتشار الأسلحة في الشرق الأوسط.