الدولة والابتكار في الخليج- فريق العمل الثاني
عقد مركز الدراسات الدولية والإقليمية الاجتماع الثاني لفريق عمل المبادرة البحثية “الدولة والابتكار في الخليج” خلال يومي 3 و4 يونيو 2014. وقد اجتمع المشاركون للمرة الثانية في الدوحة لمناقشة أوراقهم البحثية التي تحلل مساعي دول مجلس التعاون لتنويع اقتصاداتها المعتمدة أساساً على النفط باتجاه الاقتصادات المؤسسة على المعرفة، وكيفية تجسيد تلك المساعي على الأرض، والحقائق الهيكلية التي تسهل تلك التحولات أو تعيقها.
لقد أدى الاعتماد الكبير على صناعة النفط والغاز إلى تطوير رؤى وطنية تبحث بنشاط عن وسائل لتنويع الاقتصاد في دول مجلس التعاون. وهذه الجهود الهادفة للتنويع ليست فقط نتيجة لانتشار المخاطر الناجمة عن تقلبات عائدات النفط والغاز، بل تتداخل بشكل متزايد مع عناصر مرتبطة باقتصاد المعرفة، ولاسيما خلق فرص العمل وتنمية القطاعات ذات المحتوى المعرفي العالي. تقدم التصنيفات العالمية، مثل قاعدة بيانات البنك الدولي حول منهجية تقييم المعرفة، مؤشرات بشأن اقتصادات المعرفة حول العالم. وبينما تصنف قاعدةُ البيانات المذكورة دولَ مجلس التعاون دون مستويات بلدان أوروبا وأمريكا الشمالية، فإنها تصنفها أعلى بكثير من بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الأخرى. لكن المشاركين تساءلوا، على الرغم من المؤشرات العالية نسبياً في تصنيف الدول الخليجية، عن مدى قابلية تلك التقديرات للتطبيق في المنطقة نظراً للتحولات الخاصة لاقتصادات هذه الدول على مر العقود الماضية. فالبلدان المتقدمة -التي حصلت على تقديرات عالية في التصنيفات العالمية- سارت في تطور تدريجي من الاقتصاد الزراعي إلى الاقتصاد الصناعي، ثم تحولت إلى مجتمعات معلوماتية، الأمر الذي أدى إلى اقتصادات المعرفة الحالية. أما دول الخليج فتحاول القفز من اقتصادات مؤسسة على صيد اللؤلؤ والتجارة إلى اقتصادات مؤسسة بقوة على المعرفة. ويعزى السبب الأساسي في هذا التحول السريع في المنطقة –بالمقارنة مع اقتصادات أخرى مؤسسة على الموارد الطبيعية كاقتصاد النرويج- إلى تزامن اكتشاف النفط مع إنشاء الأمة، مما أدى بحكام الخليج للتركيز على تقوية حكمهم عن طريق بناء بنية تحتية مادية، وتقديم الخدمات الأساسية، مع تعليق عملية التنويع من حيث الجوهر. وهكذا همشت عائداتُ النفط القوية الهياكلَ والممارسات الموجهة للإنتاج، مما دعا المشاركين للتساؤل: هل يمكن للبلدان التي لم تمر بمرحلة الثورة الصناعية أن تدخل مرحلة التنمية المؤسسة على اقتصاد المعرفة؟
تكمن إحدى الطرائق التي تحاول دول الخليج بواسطتها بناء أسس اقتصاد المعرفة، في الاستثمار بكثافة في رأس المال البشري والأصول غير الملموسة من خلال إنشاء مرافق تعليمية وبحثية واسعة. ويمثل تكرار واعتماد نماذج تعليمية من الخارج شكلاً من أشكال الاستثمار، يمكّن دول الخليج من “تخطي عملية طويلة ومكلفة من النمو والنضج الذاتيين”، كما يشير إلى وجود دافع قوي للّحاق بركب العالم المتقدم والمنافسة في السباق العالمي للابتكار. وقد يكون من مزايا الاقتراض وتكرار النماذج تقليلُ الوقت وخفض تكلفة إنشاء النظم التعليمية الأصيلة، إلا أن عملية الاقتراض واعتمادها وتنفيذها تعدّ عملية معقدة ومكلفة في حد ذاتها. إن عملية نقل الثقافة هي واحدة من المكونات الأساسية للتعليم، ولذا فإن وجود نموذج موحد يتم استيراده من الخارج يغفل السياق الثقافي الملائم لتكون نظم التعليم فعالة محلياً. ومن ناحية ثانية يؤخر الاعتمادُ المفرط على النماذج الأجنبية والمزودين الخارجيين علميةَ بناء القدرات المحلية في الخليج، مما يعيق أساساً القدرة على تعزيز إنتاج المعرفة والخبرة محلياً. وعلى الرغم من هذا الاتجاه نحو التكرار والاقتراض، فقد عرضت دول الخليج أشكالاً من الابتكار في تطوير نظمها التعليمية. فالمدينة التعليمية –المكون الرئيسي لمؤسسة قطر- تعدّ نموذجاً لتجمع فروع لعدد من الجامعات الأجنبية تعمل تحت مظلة المدينة التعليمية. وهذه السلسلة من فروع الجامعات الدولية تهيئ فرصاً لإدماج التجارب التعليمية لجامعات مختلفة، وتتيح للطلبة التسجيل في دروس تقدَّم في أكثر من جامعة، وتوفر مجالاً للحصول على درجات علمية لبرامج مشتركة ولتعاون بحثي بين تخصصات متعددة. وتحاول مناطق أخرى من العالم تبني هذا النموذج الذي يجمع سلسلة من فروع جامعات مختلفة تحت سقف واحد، بعد أن ظهرت الفوائد التي تقدمها المدينة التعليمية في قطر. ولكن في حين تبدو الفوائد واضحة، فإن هذا المسعى مكلف وسوف يعتمد انتشاره على المستوى العالمي، إلى حد كبير، على قدرة الدول التي لا تتمتع بموارد كبيرة مثل قطر على تكرار هذا النموذج بشكل فعال.
يتطلب الاقتصاد المؤسس على المعرفة استثمارات كبيرة في مجال التعليم العالي مصممة بهدف تطوير مهارات القوى العاملة الوطنية وإنتاج “عامل المعرفة”. وعلى الرغم من هذا الاستثمار في رأس المال البشري، يواصل مواطنو دول الخليج البحث عن فرص العمل في القطاع العام – حيث تقدم لهم الدولة فوائد كبيرة – بدلاً من البحث عن عمل في القطاع الخاص. وفي حين يشكل الأجانب الجزء الأكبر من سكان دول مجلس التعاون، ويهيمنون بالتالي على القطاع الخاص، فإن وجودهم يظل مؤقتاً بحكم سياسات الهجرة التي تحد من مدة بقائهم في سوق العمل. ويؤثر هذا سلباً على تنمية اقتصاد المعرفة بسبب إعاقة الاحتفاظ بالمعرفة المحلية ونقل المعرفة الأجنبية المستوردة. ففي البلدان المتقدمة، ينظر إلى القطاع الخاص تقليدياً كحامل وراع للابتكار؛ أما في بلدان الخليج فمع وجود الحد الأدنى من المواطنين في القطاع الخاص والوجود المؤقت للمغتربين، ينشأ انفصام كبير بين الاستثمار في رأس المال البشري ومخرجات سوق العمل التي يتم جنيها كثمار لتلك الاستثمارات. وفي محاولتها لملء هذه الفجوة، تعزز دول مجلس التعاون روح المبادرة من خلال تطوير المؤسسات التي تدعم رواد الأعمال والشركات المحلية الصغيرة والمتوسطة، بغية بناء قطاع خاص قوي مشجع للابتكار. وقد شهد اقتصاد المشاريع الصغيرة والمتوسطة في السنوات الأخيرة تكاثر المؤسسات والمنظمات التي توجه خدماتها لتلبية احتياجات قطاع الأعمال الخاص ودعمه. وفي حين يمكن أن يتم تعزيز الاستراتيجيات والبنية التحتية الداعمة للمشاريع الصغيرة والمتوسطة، فإن انتشار الترتيبات الريعية في الخليج يوفر غطاءً أمنياً سميكاً من المنافع الاجتماعية التي لا تزال تحول دون تعزيز روح المبادرة لدى المواطنين – وهي الروح التي تستند إلى حد كبير على المجازفة وعدم اليقين.
وهكذا يبدو من الواضح أن ما ينقص في منطقة مجلس التعاون لدول الخليج العربية ليس بالضرورة البنية التحتية أو الاستثمار في ركائز الاقتصاد المؤسس على المعرفة، بل إنشاء بيئة ونظام وطني يفضيان إلى خلق المعرفة والابتكار. وفيما يخص التعاون بين الجامعة والصناعة والحكومة، يبدو أن دور الحكومة في تحفيز كل من الجامعات والصناعات على التعاون في تبادل المعرفة والإدارة ضعيف في بعض دول مجلس التعاون مثل قطر. على هذا النحو، لا تزال الصناعات تعمل في الصوامع وتحد من نشر المعرفة في جميع مجالات الاقتصاد. وعلاوة على ذلك، يصبح من الواضح أنه بينما يعدّ خطاب الدولة داعماً لتطوير اقتصاد المعرفة الذي يعزز الابتكار، فإن الحقائق الهيكلية لدول الخليج – وتحديداً الترتيبات الريعية واختلال التركيبة السكانية – تعمل بنشاط ضد ترجمة هذه الرؤى والاستراتيجيات الوطنية إلى حقائق ملموسة، مما يعيق الوصول إلى اقتصاد المعرفة ويحافظ على الابتكار في مستويات ضحلة.
كتبت المقال دعاء عثمان، محلل البحوث في مركز الدراسات الدولية والإقليمية