التيارات الاجتماعية في المغرب العربي – فريق العمل الثاني

التيارات الاجتماعية في المغرب العربي – فريق العمل الثاني

عقد مركز الدراسات الدولية والإقليمية اجتماع فريق العمل الخاص بالمبادرة البحثية التيارات الاجتماعية في المغرب العربي بتاريخ 22- 23 يونيو 2014 في واشنطن العاصمة. وقد اجتمع المشاركون للمرة الثانية لمناقشة نتائج أبحاثهم وردود الفعل عليها من أعضاء فريق العمل المتعدد التخصصات.

تراوحت العناوين والموضوعات التي تمت مناقشتها من تعبئة الحركات الاجتماعية في المغرب حتى اللغة وكذلك السياسة والمعارضة  في الإنتاج الثقافي.

أدى صعود الأحزاب الإسلامية في أعقاب الانتفاضات العربية إلى تجدد الاهتمام بالسياسة الإسلامية، وإلى انتشار المناقشات التي تدور حول دور الأحزاب والحركات الإسلامية في السياسة والمجتمع في بلدان شمال أفريقيا. وعلى الرغم من زيادة الاهتمام العلمي بالسياسة الإسلامية، غالباً ما يبقى نطاق الأدبيات ضيقاً حول هذا الموضوع، حيث تتجاهل تلك الأدبيات الابتكارات الفكرية والسياسية داخل الأحزاب الإسلامية، والتنوع والانقسام على صعيد الحركات الاسلامية ككل. وكانت إحدى الطرائق التي استخدمتها الأحزاب الإسلامية في شمال أفريقيا للابتكار الأيديولوجي، اعتمادُها المراجع الأيديولوجية الجديدة التي تستند إلى إطار وطني، بدلاً من التفسيرات “الشرقية” المعتمدة عادة بشأن العلاقة بين الإسلام والسياسة. فبالاستناد أساساً إلى أعمال الجزائري مالك بن نبي ثم إلى كتابات الغنوشي السابقة، قامت حركة النهضة بـ”تأميم مشروع أممي أساساً”. وهذا مؤشر على تغيير في تدفق الأفكار في المغرب العربي وفي تشكيل “التأسلم” استنادا إلى الخبرات المحلية. وبينما يجري الابتكار الأيديولوجي في المجال السياسي الرسمي، فإن الأجيال الشابة من المغاربة تنأى بنفسها عن السياسة المؤسسية على نحو متزايد، وتبحث عن طرق بديلة لأداء “إسلام كل يوم” من خلال الجمعيات التي تركز أكثر على تحسين المجتمع، بدلاً من الآليات الهرمية للسياسة المؤسسية. وقد أدى انخفاض الثقة بالمجال السياسي الرسمي، كعامل من عوامل التغيير، إلى هذا الانتشار الواسع للتساؤل حول ما يعنيه أن يكون المرء “إسلامياً”، وإلى الإدراك المتزايد للمسافة التي تفصل هذه الجمعيات عن “التسييس” كمصدر لنجاحها.

 من ناحية أخرى صارت السلفيةُ، بالنسبة للشباب الذين يعتقدون أن الدين يجب أن يلعب دوراً أكثر مركزية في السياسة، منفذاً هاماً لتحقيق الأهداف السياسية. وقد ناقش المشاركون السلفيةَ بالعلاقة مع مكوناتها الثلاث واسعة الانتشار: السلفية الدينية، والسلفية الجهادية، والسلفية السياسية. ومن الظواهر البارزة اعتماد الجهادية السلفية من قبل الشباب الإسلاميين غير الراضين عن الأحزاب الإسلامية في السلطة وعدم إجرائها تغييرات جذرية. وقد أدى صعود السلفية الجهادية في المغرب العربي- حتى قبل الانتفاضات العربية- إلى مشاركة انتقائية من قبل الدولة للصوفية بهدف موازنة التهديد المتزايد من السلفية الجهادية. وأدى هذا بدوره إلى ما سماه بعض المشاركين “إحياءً” للصوفية في المجال السياسي. وعلى الرغم مما يبدو من مشاركة الدولة، طرح المشاركون “الصوفية” كمصطلح إشكالي وجادلوا في أن ما تنطوي عليه هو أكثر بكثير من مجرد ممارسات باطنية تأملية، بل لديها في واقع الحال سياسة مؤسسية تشكل جزءاً لا يتجزأ من تعقيدات النظرة العامة للصوفية بوصفها حركةً “مهادِنة”.

ناقش أعضاء فريق العمل أيضا حركة البوليساريو ومسألة الصحراء الغربية. فبينما يُعتقد على نطاق واسع أن البوليساريو “حركة مدعومة من الجزائر”، فقد نوعت هذه الحركة قاعدة دعمها على نحو متزايد منذ التسعينات، لتشمل الجهات الفاعلة غير الحكومية مثل الناشطين في المنظمات غير الحكومية والشتات الصحراوي ووكالات المعونة الدولية. وقد ساهمت هذه الليونة والقدرة على التكيف على زيادة مرونة الحركة، وبالتالي أضفى هذا التحول غموضاً بيناً في حدود الحركة وطرحَ التساؤلَ حول ما إذا كانت البوليساريو حركةً مسلحة أم غير مسلحة.

في إطار التساؤل حول المفاهيم الضيقة السائدة في شمال أفريقيا، طرح المشاركون إشكالية مزيد من المصطلحات مثل مصطلح الانتفاضات “العربية”، الذي يفشل في الاعتراف بعدم التجانس اللغوي والثقافي في المنطقة. لقد شكل النضالُ الأمازيغي في جميع أنحاء المغرب العربي، على مدى عقود، تحدياً لأيديولوجيات القومية العربية في الدول المغاربية. ومن خلال استخدام خطاب الديمقراطية والتعددية والتنوع خلال العقود الماضية، وبخاصة في “ربيع البربر” في ثمانينات القرن الماضي، يتضح توافق حركة الأمازيغ إلى حد كبير مع مظاهرات “الربيع العربي” التي دعت إلى العدالة الاجتماعية وسيادة القانون. كما لعب الحراطين في موريتانيا دوراً بارزاً في تشكيل الطريقة التي تتم بها مناقشة قضايا حقوق الإنسان في المجتمع الموريتاني والسعي السياسي نحو الديمقراطية.

وقد وظفت دولٌ مختلفة من المغرب العربي، مثل الجزائر والمغرب، التنوعَ الثقافي ومشاركةَ نشطاء مختلفين من الأمازيغ، لإحداث مزيد من التشرذم والانقسامات الداخلية الموجودة داخل الحركة الأمازيغية نفسها، لاسيما فيما يتعلق بالأجيال والطبقات الاجتماعية. وبالإضافة إلى عدم التجانس القائم داخل الحركة الأمازيغية والدول المغاربية، تعدّ الحركة الأمازيغية حركةً عابرة للوطنية توسِّع الفضاء الثقافي- الجغرافي للبربر، وتطرح بقوة أسئلةً حول حدود تلك الدول القومية، وحول صلة الحدود الإقليمية بالتجربة المُعاشة. وفي السياق الموريتاني، في حين يتميز الحراطين بأنهم أولئك الذين ينحدرون من “أصول الرقيق”، فإنهم لا يشكلون مجموعة متجانسة، وإنما تحدَّد هويتهم كعرب أو بربر أو أفارقة أو موريتانيين. ولاحظ المشاركون أن سياسات الانتماء العرقي تلعب دوراً في تحويل المشاهد الاجتماعية والسياسية، حيث يطلق على الحراطين في أوقات مختلفة اسم “الأفارقة السود”.

مع انتشار الليبرالية الجديدة في الثقافة، لم تعد “البربرية” تمثل موضوعاً للنضال فحسب، بل صارت أيضا “أيقونة لأَثْنَنَة (التأكيد على الانتماء لإثنية معينة) الحقل الحضري المرئي”. وفي موازاة تسليع التراث البربري، تأتي السياحة المتعلقة بالتراث اليهودي والمحاظة الثقافية في المغرب. فبينما يعدّ التاريخُ اليهودي المغربي ثروةً اقتصادية أصبحت قيمتُها محوريةً لعائدات السياحة الوطنية، يطغى الصراعُ الإسرائيلي- الفلسطيني على الخطاب والدعم المحليين، مما يُخفي إلى حد كبير التاريخ اليهودي المغربي. ونظراً لهذا المستوى المتدني من الوعي بتعدد الثقافات الوطنية، يركز عدد من النشطاء الأمازيغ المغاربة والمسلمين أنشطتَهم على إدماج التاريخ المحلي لليهود في المناهج المدرسية والجامعية، بغية توسيع وتعميق فهم اليهود داخل التنوع التاريخي الثقافي في المغرب.

وفي حين أدى الترويج الرسمي للتعددية الثقافية إلى تفسيرات احتفالية تفترض أنه يشكل مقدمة لتحقيق العدالة الاجتماعية والديمقراطية، فإن تقاطع ذلك الترويج مع عناصر من أقنعة الليبرالية الجديدة خلق تداعيات اجتماعية- اقتصادية سلبية عميقة. ففي المغرب على سبيل المثال، أدى الخطاب الرسمي الذي يعزز التعددية اللغوية إلى مزيد من التقسيم الطبقي للمجتمع من خلال فرض أعباء ثقيلة على الطلبة والشباب المغاربة بتعلّم لغات متعددة. ونظراً لمتطلبات اللغة في النظام التعليمي، وعدم المساواة الهيكلية، والقيود التي تفرِض تمييزاً ضد أولئك الذين لا يستطيعون دفع تكاليف التعليم الخاص، فإن ذلك يؤدي إلى إقصاء هؤلاء من الساحات الاقتصادية الوطنية والدولية. وبينما ما يزال السكان الأكثر فقراً في المغرب العربي مستبعدين من الحراك العالمي بسبب تلك القيود الهيكلية، فقد اتسع نطاق هجرة غيرهم من السكان – وبخاصة من النخبة الرياضية. وقد تداول المشاركون، في سياق مجتمعات المهاجرين الرياضة، بشأن دول مجلس التعاون التي صارت تشكل جزءاً من الوهم الاجتماعي المغاربي، والتي تم استبدالها، على نحو ما، بأوروبا كهدف رئيس للهجرة.

لقد تم حشد الحركات العمالية قبل الانتفاضات العربية وأثناءها، بغية معالجة المشاكل الاجتماعية- الاقتصادية في المغرب العربي. ففي المغرب، ضغطت النقابات العمالية من أجل مطالب مادية وحققت بعض مطالبها من خلال سلسلة من الإضرابات والاعتصامات والاحتجاجات خلال انتفاضات عام 2011. ما يجدر تسليط الضوء عليه بهذا الخصوص، أن العمال كانوا دائماً قادرين على التعبئة والتواصل مع نضال الفئات الاجتماعية الأخرى. ولعل اعتراف الحكومة المغربية بهذه الحقيقة هو ما دفعها بشكل خاص لاستخدام تكتيك ‘فرق تسد’ بقدرة وفعالية، لتجنُب إنشاء تحالف واسع يسعى لربط الجهات الفاعلة في المجال السياسي بعضها ببعض. وعلى هذا، لم يٌبرز المشاركون أهمية البحث في المفاوضات التي تجري بين الحركات العمالية والحكومة فحسب، بل أيضاً بين العمال والعدد الكبير من الحركات الاجتماعية التي توجد في المغرب العربي، كونها قد تؤثر على استراتيجيات الحركة العمالية في توسيع التماسك الخاص بالمطالب التي تتجاوز المجال الاقتصادي.

لقد أوضحت دراسة الحالة الخاصة بالحركات العمالية أن المشكلات الاجتماعية- الاقتصادية كانت دائماً حاضرة في المجتمع المغاربي، والأهم من ذلك أن الجماعات هناك كانت قد حشدت نفسها لتقديم مطالبها قبل الانتفاضات العربية. وعدا عن التعبئة الرسمية، أوضح النتاج الثقافي في المغرب العربي أيضاً أن أشكالاً أخرى من المعارضة انتشرت داخل المجتمع. فبالنظر إلى أفلام المعارضة التونسية خلال فترة ما بعد الاستعمار، ناقش المشاركون أعمال كل من مفيده طالي ونوري بوزيد وفريد بوخضير ومحمد زران ومنضف ضويب. فقد تحدت هذه الأفلام الوضع الاجتماعي- الثقافي من خلال الخوض في المحرمات، وتوسيع الحدود الاجتماعية، وتشكيل “الأساس النقدي للطعن في جهاز الدولة الحكومي والسياسي نفسه”. كيف استُقبلت هذه الأفلام من قبل الجمهور التونسي وهل أوحت بفعل سياسي أم لا، أمرٌ ظل غامضاً. ما هو واضح على كل حال هو أن المعارضة كانت سائدة في وعي وأعمال العديد من فناني المغرب العربي.

كتبت المقال دعاء عثمان، محلل البحوث في مركز الدراسات الدولية والإقليمية