إصدار كتاب جديد: السياسة البيئية في الشرق الأوسط
أصدر مركز الدراسات الدولية والإقليمية في 11 نوفمبر 2018 أحدث كتبه عن Environmental Politics of the Middle East (Oxford University Press/Hurst, 2018),حرّر الكتاب هاري فيرهوفن، أستاذ العلاقات الدولية والسياسة الإفريقية المشارك في جامعة جورجتاون في قطر، الذي قدم نتائج البحث في حوار نظّمه مركز الدراسات الدولية والإقليمية. ويحاول الكتاب، حسب فيرهوفن، “كشف النقاب عن بعض السرديات البيئية الرائدة التي ظهرت في جميع أنحاء هذه المنطقة الكبيرة، وتفنيد تلك السرديات وتفكيكها”، حيث قال إن هذه القصص ليست نتاج الشرق الأوسط وحده، بل هي تفاعلات بين أجزاء أخرى من العالم ودول الشرق الأوسط ومجتمعاته وأسواقه.
وجادل فيرهوفن بأن الفكرة التي تحدد بها الطبيعة نفسُها النتائجَ السياسية والاقتصادية والاجتماعية لطالما كانت بديهية: “ولا أدَلَّ على ذلك ربما من القول القديم بأن ’مصر هبة النيل‘. وكأن مجرد انسياب الماء من المرتفعات الإثيوبية – ومن بحيرة فيكتوريا في وسط أفريقيا، وصولاً إلى مصر – في حد ذاته يفسّر جميع العمليات السياسية والاجتماعية التي تحدث في مصر.”
وقال إن البيئة غالبًا ما يُفترض أنها “متغير خارجي ومستقل يحدد شكل المتغير التابع” – أي النتائج السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ولهذه الفكرة تاريخ طويل جدًا يمكن إرجاعه إلى العديد من المثقفين المرموقين. وأوضح فيرهوفن أن مفهوم “الحتمية البيئية” – بمعنى أن النتائج البيئية تشكل أساسًا الفكر السياسي والاقتصادي – نشره أرسطو الذي اعتقد أن بعض أنواع التضاريس تنشئ حضارات سياسية محدّدة.
لقد كانت طريقة التفكير هذه حاضرة أيضًا في كتابات ابن خلدون الذي كان، في رأي فيرهوفن، ربما أعظم مفكر في القرن الرابع عشر. فقد قسّم ابن خلدون العالم إلى سبع مناطق مناخية مختلفة لكلٍّ منها نتيجة محددة يرتبط بها تنظيمٌ اجتماعي وثقافة وأنظمة سياسية. وقال فيرهوفين: “الفكرة هنا، أساسًا، هي أن المناخ، والبيئة باعتبارها متغيرًا خارجيًا، يحدّدان ما يحققه الإنسان من نتائج”.
وقال فيرهوفين: “لقد استخدم الاستعمار الأوروبي أيضًا أفكار ابن خلدون – أو بمعنى أدقّ أساء استخدامها – في هذا الجزء من العالم”. فالتفسيرات البريطانية والفرنسية الكلاسيكية للأسباب التي جعلت الغرب أكثر ثراءً وأشدّ قوة من أجزاء من شمال أفريقيا والشرق الأوسط كانت بيئيةً في جزء منها. وقال إن قراءة المراجع التاريخية، لا سيما ما يتعلق منها بالاستعمار الفرنسي للجزائر ابتداءً من عام 1830 “يجعل المرء يقف مندهشًا كيف يلوم الفرنسيون مرارًا وتكرارًا السكانَ المحليين أساسًا على سوء إدارة الموارد الطبيعية، مسوّغين بذلك الاستيلاء على الأرض ونزع ملكيتها من أهلها.” وأوضح أن المستعمرين دافعوا عن إنجازاتهم على أساس أن لديهم معرفة أكبر بكثير بالموارد الشحيحة وفكّروا في جهودهم على أنها “مساهمة في الإنسانية، وفي الحضارة ككل”.
” إن الطريقة ذاتها التي نفكر بها في البيئة، والطريقة التي نمثلها بها، والطريقة التي نحاول أن نتدخل بها ليست ممارسة غير سياسية. بل هي تمرين يهتم بشكل أساسي بمسائل التوزيع: من يحصل على ماذا؟ من المسؤول عن ماذا؟ من الذي تروى سرديته، ومن الذي لا تروى سرديته؟ من لديه السلطة لكي يقرر ما إذا كانت المشكلة ستسمى مشكلة بيئية أم مشكلة تنموية أم مشكلة أمنية؟”
وقال فيرهوفن إن الحتمية البيئية لا تزال حاضرة بقوة في أنماط التفكير السائدة حول الروابط بين البيئة والتنمية الاقتصادية والسياسة اليوم. وتعلن “النزعة البيئية التكنوقراطية” أنها غير سياسية على نحو حازم ويتولى أمرها أنجب العقول على هذا الكوكب. فجيفري ساكس، وهو أحد أشدّ علماء الاقتصاد تأثيرًا في العالم، يقترح “ممارسة الصرامة والبصيرة والطابع العملي” باستخدام الأساليب الوضعية. ويعتقد أنصار البيئة التكنوقراطيون أن العلم يمكن -بل ينبغي- أن يكون مسعىً مجردًا من القيمة. والسياسة وفق هذه القراءة متغيرٌ مُفسِد لا ينبغي أن يؤخذ في الحسبان عند تفسير عمليات تغير البيئة، وأنه ينبغي ترك أمر التدخلات للخبراء دون غيرهم. لكن ذلك، كما يرى فيرهوفن، يفتح المجال لاتخاذ قرارات شديدة الاستبداد بحيث يعامَل عامة الناس على أنهم جاهلون غير جديرين بالمشاركة.
أما الطريقة الثانية المؤثرة من طرق التفكير في البيئة والسياسة والتنمية، حسب فيرهوفن، فتنبع من تقليد أكثر تشاؤمًا يرجع أصله إلى القس توماس مالتوس الذي حذّر من أن للإنسان قدرة محدودة على تشكيل الطبيعة. ويرى هذا المنظور أنه سيأتي حينٌ من الدهر يفوق فيه النموُ السكاني النموَ الزراعي. وأوضح فيرهوفن أن مثل هذا السيناريو سيؤدي إلى إعادة توازن أعداد السكان من خلال مزيج من المجاعات والحروب والأمراض، أو هكذا تنبّأ مالتوس. وقال إن الخطاب المتداول اليوم عمّا يُسمّى حروب المياه أو حروب المناخ – أي عندما ينفد الماء والغذاء من مجتمعات أو مناطق بأكملها فإنها تكون لا محالة في طريقها إلى الحرب – هو رجعُ صدىً لرؤى مالتوس المُغرقة في السوداوية.
وقال فيرهوفن إن الفكرة البديهية التي تقوم عليها “حروب المياه” هي “مأساة المشاعات” المعروفة، وهي حكاية رمزية عن استخدام الموارد مستوحاة من توماس هوبز المعروف بتشاؤمه. ومؤدّى هذه الفكرة أنه عندما يتعين تقاسم الموارد المحدودة، في حالة عدم وجود سلطة خارجية تنظّم استهلاك الأطراف الفردية، فإن المجتمعات سوف تستنزف المورد المعني حتمًا لأن من مصلحة كل فرد أن يستهلك منه قدر الإمكان. وعندما تكون هذه الموارد ضرورية للحياة، مثل الماء، يكون الناس على استعداد للاقتتال عليها حتى الموت، وفق هذه الحكاية الرمزية. وقال: “ما يخبركم به الذين يؤمنون بحروب المياه أساسًا هو أنهم بحاجة إلى نوع من “السلطة المهيمنة”، وهي السلطة المركزية الخارجية التي تحدّ من استهلاكنا للموارد وتحمينا من أنفسنا”. لكن الأدلة التجريبية، يقول فيرهوفين، تشير إلى خلاف ذلك.
وتم توضيح مفهوم بديل لكيفية ترابط العوامل البيئية والتنمية والسياسة من خلال أطروحة فصل واحد من كتاب السياسة البيئية في الشرق الأوسط الذي قدّمه فيرهوفن. فكل عام تُدمّر مساحاتٌ شاسعة من الغابات في جنوب الصومال ووسطه لجلب الفحم إلى أسواق الشرق الأوسط لتدخين الشيشة وشوي اللحوم. وتساهم رغبة الخليج في الفحم ذي الجودة العالية المستخلص من أشجار السنط (الأكاسيا) في الصومال مساهمةً مباشرة في تدهور البيئة وتخلّف الاقتصاد وفي الصراع العنيف. ويوضح هذا الأمر كيف يرتبط تدهور الموارد في جزء من العالم ارتباطًا وثيقًا بعملية الاستهلاك والتراكم في أماكن أخرى. ولا يقتصر الأمر على تقليل غطاء الأشجار في جنوب الصومال، بل إن إزالة الغابات بسبب استغلال الفحم تجعل الأرض أكثر عرضة للتآكل والفيضانات السريعة والجفاف المزمن. زِد على ذلك أن فرض الجماعات الجهادية، مثل حركة الشباب، والمتدخلين الأجانب، مثل قوات الدفاع الكينية، ضرائب على الفحم يسهم إسهامًا مباشرًا في الصراع المستعر منذ عقود في الصومال.
واختتم فيرهوفن حديثه بتكرار رسالة الكتاب الرئيسية: “إن الطريقة ذاتها التي نفكر بها في البيئة، والطريقة التي نمثلها بها، والطريقة التي نحاول أن نتدخل بها ليست ممارسة غير سياسية. بل هي تمرين يهتم أساسًا بمسائل التوزيع: من يحصل على ماذا؟ من المسؤول عن ماذا؟ من الذي تروى سرديته، ومن الذي لا تروى سرديته؟ من لديه السلطة لكي يقرر ما إذا كانت المشكلة ستسمى مشكلة بيئية أم مشكلة تنموية أم مشكلة أمنية؟” المهم في الأمر أنه لا يمكن اعتبار القضايا البيئية والسياسية منفصلة بعضها عن بعض من الناحية التحليلية في هذه المنطقة أو في غيرها. والقضايا المطروحة هي بالأساس قضايا السلطة. ويتمحور كتاب مركز الدراسات الدولية والإقليمية حول الطرق التي يتم بها تصنيف مجموعات معينة من الأشخاص كأعداء للدولة، ويتم تجريمهم ومنعهم من الوصول إلى وسائل الإعلام – بسبب نشاطهم في مجال حماية البيئة كما يبدو في الظاهر، ولكن السبب الحقيقي هو الطريقة التي يتحدون بها أرباب السلطة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. يدور كتاب السياسة البيئية في الشرق الأوسط حول “من له الحق في أن يقول ماذا، وبموجب أي سلطة، ومن يتم إقصاؤه إقصاءً ممنهجًا – زمنيًا ومكانيًا”.
مقال بقلم الخنساء ماريا، زميلة منشورات كيورا
هاري فيرهوفن أستاذ مشارك للعلاقات الدولية والسياسة الأفريقية في كلية الشؤون الخارجية بجامعة جورجتاون في قطر. وهو مؤلف كتاب Water, Civilisation and Power in Sudan: The Political Economy of Military-Islamist State Building (2015), and Why Comrades Go to War: Liberation Politics and the Outbreak of Africa’s Deadliest Conflict (2016). حصل فيرهوفن على درجة الدكتوراه من جامعة أكسفورد وعمل باحثًا زائرًا في جامعة كامبريدج في الفترة 2016-2017. وهو منسق شبكة الصين-أفريقيا بجامعة أكسفورد، والمحرر المشارك لسلسلة كتب مطبعة جامعة كامبريدج الجديدة حول الاستخبارات والأمن القومي في أفريقيا والشرق الأوسط.