أقاليم العالم: محور الشرق الأوسط – فريق العمل
عقد مركز الدراسات الدولية والإقليمية ومعهد ستوني بروك للدراسات العالمية الاجتماع الأول لفريق عمل المبادرة البحثية المشتركة أقاليم العالم: محور الشرق الأوسط. فقد التقى باحثون من خلفيات تخصصية مختلفة بتاريخ 8 يونيو 2014 في الدوحة، لمناقشة الموضوعات المتعلقة بمفهوم “الأقاليم”، وبناء الهويات الإقليمية، وأقاليم العالم وحضاراته.
بدأ المشاركون اجتماع فريق العمل بمناقشة “مقاربة بانجيا لأقاليم العالم”. وهذه المقاربة الجديدة- القديمة لأقاليم العالم تصنف الأقاليم على أساس الاختلافات الطبيعية وما وراء الجغرافية. فمن الناحية الطبيعية حدثت الاختلافات بين القارات السبع كنتيجة لتجزئة قارة البانجيا العملاقة القديمة. أما الاختلافات الأخرى ما وراء الجغرافية فهي: الدول- الأمم، التي نشأت بعيداً عن التصنيفات السياسية على أساس شمال- جنوب، أو على أساس اقتصادي محيط وشبه محيط (مقابل المركز)، أو على أساس الاختلافات الثقافية مثل الغرب والشرق. هذه الطريقة التقليدية في دراسة الأقاليم تفتقد إلى إدماج تأثير الجسم الجغرافي الذي يتأثر تأثراً كبيراً بالوسائل العلمية- التقنية. وبينما يستند تقسيم الأرض في المقاربة الجديدة- القديمة إلى منظور ثقافي- اجتماعي بالدرجة الأولى، تسعى المقاربة الجديدة- الجديدة – أو مشروع بانجيا 2- إلى إدماج المنظور العلمي- التكنولوجي مع منظور الدراسات الثقافية. إن تأثيرنا الاجتماعي- الطبيعي يؤدي إلى ثقافة علمية تقنية عالمية تتطلب تصوراً جديداً وإعادة لرسم خرائط العالم- بحسب مشروع بانجيا 2. وناقش المشاركون أيضاً أهمية اللغة عند بناء الأقاليم وإعادة رسم خرائطها. يبرز مفهوم أقاليم “العالم” التنوع والانقسامات بين الأقاليم المختلفة، بينما يمكن أن يركز مفهوم أقاليم “عالمية” أكثر على الصلات المتبادلة والتداخل، آخذاً في الاعتبار التغير المستمر الذي يجتاح الأرض ككل وطارحاً رؤية ثنائية تجمع بين المكونات الاجتماعية- الثقافية والمكونات الاجتماعية- الطبيعية.
وكان الموضوع الثاني الذي ناقشه الاجتماع “الحضارة الإسلامية والعالم الفارسي”. لقد أدى تطور الاستشراق في أواخر القرن الثامن عشر إلى الانتقال من مفهوم وحدة الحضارات إلى تعددها. فقد اعتمدت المقاربة الاستشراقية للحضارات اللغةَ كمؤشر حاسم، وعلى هذا النحو، واعتماداً على تأثير اللغة الفارسية وتتابع الأجيال، اعتُبر العالم الفارسي إقليماً حضارياً. بينما استبدَلت مقاربة ماكس فيبر الدين باللغة كمؤشر رئيسي للحضارة. وفي هذا التصور تعد الحضارة الإسلامية إقليماً من أقاليم العالم. هذه التصورات عن مناطق العالم لا يستبعد أحدها الآخر، مما يعني أن الهويات يمكن أن تكون متقاطعة ومتداخلة بحيث يمكن للمرء أن يكون مسلماً وفارسياً وشرق أوسطي في الوقت نفسه. وفي حال اتخاذ أقاليم العالم كوحدات للتحليل، فإن التماسك الجغرافي، والسياسي أو الثقافي، والبنيوي يعد معياراً أساسياً. فقد كان التماسك الجغرافي واضحاً في امبراطوريات العصرين القديم والوسيط التي كانت متجاورة. أما التماسك السياسي فقد نشأ مع نشوء الدولة ككيان سياسي. يستند التماسك السياسي كإطار للتحليل إلى “فكرة شيلدون بولوك حول الألفية العامية حيث انحسرت اللغات العالمية- السنسكريتية واللاتينية والعربية- لتفسح المجال أمام نمو اللغات والثقافات العامية نتيجة لتشكُّل الدول مع صعود الممالك المحلية”. وبينما كانت العربيةُ اللغةَ المشتركة لشعوب البحر الأبيض المتوسط، تحولت الفارسية لتصبح لغة مكملة للشعوب التي اعتنقت الإسلام، حيث لعب السامانيون، في القرن العاشر بوجه خاص، دوراً بارزاً في نشر الإسلام كدين عالمي. وأما المكون الثالث للمعايير المذكورة –التماسك البنيوي أو المؤسسي- فيشمل النظام التشريعي وقوننة المعايير وتنظيم المنطق. فالقانون الإسلامي –أو الشريعة- هو في المقام الأول قانون خاص تم تطويره في إطار الحضارة الإسلامية. أما القانون العام أو الدستوري فلم يتطور في إطار تلك الحضارة، بل جاءت فكرة “الملكية الإسلامية” كإحدى “الأخلاقيات الإسلامية”، إلى حد كبير، من فكرة الملكية(kingship) التي تشير إلى مجال آخر من مجالات التداخل الكبير بين العالمين.
وفي مناقشتهم لموضوع “العالمية الإسلامية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجنوب آسيا قبل الإمبراطوريات الاستعمارية والأمم- الدول”، ناقش المشاركون الأدبيات بواسطة إطارين جغرافيين مهيمنين: الشمول (الجوانب الحضارية العرقية/الثقافية/الدينية)، وذلك المتعلق بالإمبراطورية (الجوانب السياسية). هذا التأطير الكامن بين تلك الكيانات الجغرافية يشمل إطاراً أقرب إلى الاجتماعي- الثقافي والاجتماعي- الاقتصادي، وآخر يركز على الأنشطة المتمركزة حول التغيير، وثالث يضم عامة الناس الذين لم يكونوا جزءاً من النخبة كالطلبة والمعلمين والحجاج والتجار إلخ. ويعود إهمال هذا الكيان الجغرافي الأخير إلى الغياب النسبي لمنطقة الشرق الأوسط وجنوب آسيا بالمقارنة مع أجزاء أخرى من العالم في الدراسات المتعلقة بالتاريخ العالمي. إن معالجة هذا الكيان الجغرافي الثالث تملأ فجوة كبيرة في المعرفة العلمية، وتسهل إعادة بناء مجالات التواصل الاجتماعي البارزة التي جرت قبل القرن التاسع عشر. ويمكن للباحثين تسهيل دراسة التاريخ المفاهيمي وإعادة بناء مجالات الاتصالات المكانية في السياقات الماضية من خلال تبني فقه اللغة، وبالاعتماد على التقنيات الاجتماعية- العلمية التي تخلق تصورات أساسية حول الموضوع المطروح.
وطرح أعضاء فريق العمل إشكالية “الشرق الأوسط” كإقليم محدد. فقد رأى الباحثون أن هذه التسمية تعدّ “واحدة من أكثر المفاهيم نسبية”، حيث ناقشوا مطولاً الأنماط الجغرافية والثقافية والسياسية والتاريخية التي تمنح التماسك لهذه الرقعة من العالم. ولكن على الرغم من تلك الخلافات حول تسمية الشرق الأوسط، فقد انخرط المشاركون في مناقشة الإقليم. وبموازاة مناقشة سابقة حول تحولات مراكز الإقليم وعلاقة المركز بالمحيط، تساءل المشاركون عما إذا كان هناك تحول في مراكز الثقل الإقليمية في الشرق الأوسط –متجاوزين الاعتبارات السابقة حول مراكز القوة والنشاط الاقتصادي في بغداد والقاهرة ودمشق إلى مثيلاتها في دول الخليج الفارسي. ومن إجل فهم ما إذا كان مركز الثقل ينتقل أم لا، لابد للباحثين من قراءة أفضل للمشهد الثقافي في الشرق الأوسط. فكثير مما نعرفه عن إنتاج المعرفة في الإقليم يتعلق بالأنشطة السياسية، ولا نعرف كثيراً عن المفكرين السياسيين في مجتمع الشرق الأوسط. ومعرفة ما إذا كانت مدن مثل دبي مثلاً تشكل مراكز ثقافية حقيقية لإنتاج المعرفة في الإقليم يمكن أن يساعدنا على فهم ما إذا كانت مثل تلك التحولات تحصل فيه بالفعل. ومع ذلك تساءل بعض المشاركين عما إذا ما زال هناك مراكز ثقل بالفعل، أم ربما كان الموجود مجرد سلسلة متضافرة من شبكات النشاط عبر الإقليم كله.
دقق المشاركون أيضاً في موضوع “الشرق الأوسط ونظرية العلاقات الدولية” بربطهم بين الدراسات الإقليمية وتخصصات العلوم الاجتماعية. فلكل من مدارس العلاقات الدولية الأربع (مدرسة القوة، ومدرسة الاعتماد المتبادل، والمدرسة الماركسية، والمدرسة البنائية) علاقة خاصة بالإقليم. فمدرسة القوة، على سبيل المثال، تبرز الواقعية وتعزو تشكُّل الإقليم لإجراءات القوى الكبرى- وهذا ينطبق على الشرق الأوسط لأن تشكل –وتعريف- الإقليم هو في الحقيقة نتاج القوى الكبرى. أما عند تناول العالم الحديث فيظهر نمط آخر من الواقعية- واقعية القوة التي تحدَّد بقدرتها على إنتاج المعرفة التقنية- العلمية وتطويرها، مع إبراز الحاجة الجديدة للحضارات لكي تتقدم بشكل مطرد بالمقارنة مع الحضارات التقليدية التي لم تبرز عملية النمو. ومع أن مدرسة القوة ظلت صامتة، إلا أنها لم تأخذ بالحسبان فاعلي القوة الإقليميين ولا وضعت في اعتبارها الفاعلين خارج نطاق الدولة. ومن ناحية أخرى أكدت المدرسة البنائية- التي تعدّ قادماً جديداً في نظرية العلاقات الدولية- على أهمية الأفكار، مقربة تلك النظرية نحو التفكير الاجتماعي، مما يتيح تحليلاً أعمق وإدماجاً للديناميات الداخلية للإقليم. أما البنائية الجديدة –ربما الأكثر تأثيراً بين المدارس الأخرى- فتبرز الأبعاد المادية لنظريات العلاقات الدولية الأخيرة (القوة، الاقتصاد، الطبقة) فضلاً عن الأبعاد الفكرية.
كان الموضوع الأخير الذي عالجه أعضاء فريق العمل هو “أوراسيا المركزية كأحد أقاليم العالم”. تضم أوراسيا المركزية جماعات إثنية ولغات عديدة تجعل من الصعب تعريف تلك المنطقة كإقليم. فعلى الرغم من أن التشابهات اللغوية بين الأوزبك والكازاخ، على سبيل المثال، تشير إلى تشابهات ثقافية، فإن سكان هذين البلدين لايرون الأمر كذلك، غالباً بالنظر إلى الحدود اللغوية والجغرافية التي كرستها المؤسسات السوفيتية خلال القرن العشرين. ومن المنظور الداخلي، جعلت الموروثات الوطنية من الصعوبة بمكان تحديد وسط آسيا كإقليم، نظراً لأن سكانه أكدوا تاريخياً على استمرار الانفصال. ومن منظور فاعلين خارجيين، كمانحي المساعدات الدوليين مثلاً، تقوض مساراتُ البلدان التنموية المتباينة أيضا التماسكَ الإقليمي، (ففي حين تحقق كازاخستان تقدماً اقتصادياً سريعاً، تعتبر دول مثل طاجيكستان وأفغانستان من الدول الفاشلة في نظر المجتمع الدولي). إن الجوانب المختلفة للغة والثقافة والجغرافيا والشتات والطرق التي تتعامل بها المنظمات الدولية مع المنطقة، تكشف عن مركّبات متعددة من الهوية الإقليمية التي يمكن للناس تعبئتُها. وعلى هذا النحو، بينما يمكن أن يكون الإقليم بناءً مصمماً من قبل خطاب أكاديمي غربي، هناك لحظات يمكن أن يستحضر فيها الناس وحدة الإقليم لأغراض محددة. إن التأكد من مواعيد ظهور تلك اللحظات وأغراضها يسهم في فهم الطرائق التي يثير الناس أنفسهم بواسطتها التماسك الإقليمي.
كتبت المقال دعاء عثمان، محلل البحوث في مركز الدراسات الدولية والإقليمية