الماء العكر: إنعدام الأمن في الخليج
تبرز منطقة الخليج، في خضم النزاعات والصراعات الدولية، كمنطقة سياسية ساخنة. وسعيًا لمعرفة سبب اضطراب المنطقة المزمن، انطلق مهران كامرافا، مدير مركز الدراسات الدولية والإقليمية بجامعة جورجتاون في قطر والأستاذ فيه، لاستكشاف هذه الظاهرة بعمق فأجرى أبحاثًا ميدانية مكثفة ومقابلات مع وزراء وخبراء من أبو ظبي والرياض ومسقط وطهران وغيرها على مدى عدة سنوات. وجمع أبحاثه في كتاب بعنوان Troubled Waters: Insecurity in the Persian Gulf (Cornell University Press, 2018) وقدّم النتائج التي توصل إليها في محاضرة عن الكتاب في مركز الدراسات الدولية والإقليمية في 12 سبتمبر 2018.
استهلّ كامرافا حديثه بذكر ثلاث محادثات لا تنسى كان يطرح في كل منها السؤال التالي: “ما هو أكبر تهديد أمني يواجه بلدك؟” وقال إنه تلقى في كثير من الأحيان إجابات متوقعة. فقد قيل له في الرياض إن ذلك التهديد هو “طهران”، وقيل له في طهران: “الأمريكان بطبيعة الحال”. لكن وزير خارجية عُمان فاجأه بالجواب التالي: “البطالة”. وأوضح المسؤول أنه إذا كان الشباب لا يعمل فمن المحتمل أن يزجّ بنفسه في المتاعب. قال كامرافا: “لقد أظهر ذلك لي حقًا الكثير من النضج في السياسة الخارجية العمانية”، خصوصًا أن عُمان لها سمعة طيبة في التفاوض حول “دبلوماسية شديدة الدقة والتعقيد بطريقة ناضجة للغاية وعقلانية”. وكان كامرافا قد سأل أحد كبار الوزراء في الحكومة في مقابلة أخرى عن سبب فرض بلاده تجنيد الشباب فجأة. فأوضح الوزير أنه إذا شعر الشباب بالملل والتوقف عن العمل، فقد يواجه مشكلة، كما أن “داعش تقوم بالتجنيد على الإنترنت”. ولم يكن هذا الجواب أيضًا، يقول كامرافا، ذلك الجواب المبتذل الذي قد يسمعه المرء عند إجراء مقابلة مع وزير في الحكومة.
واتفق أنْ كان كامرافا في الرياض في عام 2014، حينما سحبت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين سفراءها من قطر، حيث دامت هذه الأزمة ثمانية أشهر. وخلال مقابلة مع أحد كبار الأمراء في وزارة الخارجية، أدرك المسؤول أن كامرافا يعمل في جامعة جورجتاون في قطر، لا في جورجتاون بواشنطن العاصمة. فكان رد فعل الأمير كما يلي: “نستطيع أن نغلق مجالنا الجوي في وجه قطر. ونستطيع أن نفرض عليهم حصارًا. ويمكننا أن نخنقهم. لن ندع الخطوط القطرية تطير”. وقال كامرافا للجمهور إنه لم يفهم آنذاك سبب غضب الأمير. وبعد ثلاث سنوات، في عام 2017، عندما قادت المملكة العربية السعودية الحصار الحالي على قطر، اتضح له أنه إذا كان أستاذ عادي قد سمع هذه التعليقات، فلا ريب أن المسؤولين في الدوحة كانوا على علم وأنهم وضعوا خططًا للطوارئ، وأن السعوديين كانوا يتهيؤون لزيادة قطع العلاقات مع قطر.
وقال كامرافا إنه دُهش لرؤيةٍ اكتسبها من لقاءاته مع وزراء الخارجية ومع غيرهم من المسؤولين في إيران. وقال إن الجميع أخبره أن تجربة الحرب العراقية الإيرانية توجّه صُنع السياسة الخارجية لبلدهم اليوم. وقيل له: “لا ننسى أبدًا أن الدول العربية في المنطقة اصطفت الواحدة تلو الأخرى لضربنا. وقدمت المملكة العربية السعودية والكويت وعدد آخر من الدول مليارات الدولارات للعراق من عام 1980 إلى عام 1988. ولن ننسى أن الأمريكيين قدموا معلومات عبر الأقمار الصناعية للعراقيين لإلقاء الأسلحة الكيميائية على القوات الإيرانية بفعالية أكبر، وأخبروهم عن تحركات القوات الإيرانية. وقال كامرافا إنه، بصفته باحثًا في الشأن الإيراني، لم يكن يفهم تمامًا أن ذاكرة الحرب “لا تزال حية بهذا القدر”.
وقال كامرافا إن الأسباب والديناميكيات التي جعلت منطقة الخليج غير آمنة على نحو مزمن يمكن تقسيمها، استنادًا إلى محادثاته ومقابلاته العديدة، إلى أربع فئات عريضة. أما الفئة الأولى، كما قال، فهي كيف تم ويتم هيكلة نظام الأمن في المنطقة منذ فترة طويلة. وقال: “لم يفكر أحد في سيناريو يربح فيه جميع الأطراف. لقد فكر الجميع في سيناريو يخسر فيه طرف ويربح فيه طرف آخر”، موضحًا أن أمن المنطقة يُنظر إليه على أنه لعبة محصّلتها صفر، أي إن الطريقة الوحيدة لحماية مصالح الفرد هي حمايتها على حساب مصالح شخص آخر.
وأما السبب الثاني لانعدام الأمن في المنطقة فهو “شيوع سياسة الهوية”، حيث قدّم كامرافا خلاصة عامة للتاريخ السياسي للمنطقة. ويمكن اعتبار الشرق الأوسط منذ خمسينيات القرن العشرين “عصر القومية العلمانية”، ومنذ أواخر سبعينيات القرن العشرين فصاعدًا، كان الإسلام السياسي هو السردية السائدة. وقال إنه في تلك الفترة “لم يكن الخلاص في المنطقة يكمن في النزعة القومية، وهو ما أكدته الافتراضات العلمانية وغير الدينية، وإنما في تبنّي التفسيرات السياسية للدين.” وما أضحى مهمًّا – ما أضحى المصدر الأساسي للهوية – لم يكن الدين فقط بصفة عامة، وإنما هويات طائفية بعينها داخل الدين.” ووصف كامرافا جذور الطائفية العميقة والاستعمارية في الشرق الأوسط، مشيرًا إلى تكتيكات سياسة “فَرِّقْ تَسُدْ” التي اعتمد عليها البريطانيون والفرنسيون لإثارة المشاعر الطائفية.
“ما نشهده ليس طائفية بقدر ما هو عملية إعادة بناء الطائفية في الشرق الأوسط”.
وأما السبب الثالث، يقول كامرافا، فهو كثرة الأطراف الإقليمية المتحاربة. “الوكالة مهمة. وليست المؤسسات وحدها مهمة، فالأشخاص مهمون. والعلوم السياسية – السياسة – هي في نهاية المطاف فن ممارسة السلطة، أو علم ممارسة السلطة.” وتابع قائلاً: “ما نراه في منطقتنا، لا سيما منذ 2013-2014، هو بروز أجيال من القادة جديدة تمامًا، لا يلعبون وفقًا لقواعد اللعبة القديمة، بل يضعون قواعد خاصة بهم”، ولا يرغبون في الالتزام بالخبرات الدبلوماسية التقليدية، على حد قوله.
وأما السبب الأخير الذي ساقه لانهيار الأمن في المنطقة فهو ما أسماه “المعضلة الأمنية”؛ أي عندما تعزّز دولةٌ ما أمنها الخاص، فإنها تجعل الدول الأخرى عن غير قصد تشعر بعدم الأمان. “فإذا اشتريت نظام سلاح جديد، فإن خصمك المجاور سيواجه تهديدًا جديدًا، لذلك يتعين عليه فعل الشيء نفسه”، فتنشأ عن ذلك حلقة مفرغة. فما السبيل إلى الخروج من هذه الحلقة؟ قال كامرافا “ينبغي أن يتحدث بعضنا إلى بعض. وينبغي بناء الثقة. وينبغي القيام بالخطوة الأولى. وبالطبع، لا أحد مستعد للتحدث. وليس لدينا أي محفل للحوار”.
وبخصوص المستقبل، قدّم كامرافا أربعة أسئلة ينبغي النظر فيها. أولاً، ما هو الدور الذي ستضطلع به الولايات المتحدة في المنطقة؟ هل سيتدخل الأمريكيون ويقولون إن على السعوديين والإيرانيين أن يتعلموا تشارُك المنطقة؟ ثانيًا، ماذا سيحدث في إيران؟ وأوضح أن إيران في طور التغيير، مع الرحيل الوشيك للمرشد الأعلى خامنئي الطاعن في السن، وسيخضع المشهد السياسي الإيراني بلا شك لتغيرات جذرية. وسيؤثر هذا بدوره في سياسات الرئيس روحاني التوافقية، ودور الحرس الثوري الإيراني.
“ما نشهده في منطقتنا، لاسيما منذ 2013-2014، هو بروز أجيال من القادة جديدة تمامًا، لا يلعبون وفق قواعد اللعب القديمة، بل يضعون قواعد خاصة بهم.”
ويتعلق السؤال الثالث بمستقبل مجلس التعاون الخليجي. ووصف كامرافا المجلس بأنه “يعيش بفضل جهاز التنفس الاصطناعي” منذ بدء الحصار على قطر. وقال كامرافا “لا أحد يريد أن يكون الطرف المسؤول عن إنهاء” مجلس التعاون الخليجي. وتوقع استمرار وضع التنفس الاصطناعي من خلال التعاون التقني، أما “امتلاك قوة دفاع مشتركة، وإقامة تكامل سياسي واقتصادي ذي معنى – فهذا، في رأيي، أمر فات أوانُه”.
أما السؤال الأخير و”الأكثر إزعاجًا ربما” فهو المنظور المستقبلي للطاقة على الأمد البعيد. وقال كامرافا لو لم تكن المنطقة تنتج النفط والغاز الطبيعي لما كان لها هذه الأهمية الاستراتيجية، مضيفًا أنه في حال استمرار الاتجاهات الحالية -زيادة الاستقلال عن منطقة الخليج في مجال الطاقة- “ستظل هذه المنطقة، للأسف، غير آمنة لبعض الوقت في المستقبل”.
مقال بقلم الخنساء ماريا (دفعة 2021)، زميلة إدارية – كيورا
مهران كامرافا أستاذ ومدير مركز الدراسات الدولية والإقليمية بكلية الشؤون الخارجية بجامعة جورجتاون في قطر. ألّف عددًا من المقالات والكتب، منها كتب صدرت مؤخرًا بعنوان Troubled Waters: Insecurity in the Persian Gulf (مطبعة جامعة كورنيل، 2018))؛Inside the Arab State (مطبعة جامعة أكسفورد، 2018)؛ The Impossibility of Palestine: History, Geography, and the Road Ahead (مطبعة جامعة ييل، 2016) ؛ Qatar: Small State, Big Politics (مطبعة جامعة كورنيل، 2015) ؛ The Modern Middle East: A Political History since the First World War, 3rd. ed. (مطبعة جامعة كاليفورنيا، 2013) ؛ Iran’s Intellectual Revolution (مطبعة جامعة كامبريدج، 2008). وتشمل كتبه المحررة: The Great Game in West Asia: Iran, Turkey, and the Southern Caucasus (2017)؛ Fragile Politics: Weak States in the Greater Middle East (2016)؛ Beyond the Arab Spring: The Evolving Ruling Bargain in the Middle East (2015) ؛ The Political Economy of the Persian Gulf (2012)؛ The Nuclear Question in the Middle East (2012) ؛ The International Politics of the Persian Gulf (2011).