العدالة الانتقالية في الشرق الأوسط – فريق العمل الثاني
عقد مركز الدراسات الدولية والإقليمية الاجتماع الثاني لفريق عمل المبادرة البحثية الموسومة بـ العدالة الانتقالية في الشرق الأوسط. فقد التقى وباحثون وخبراء إقليميون ودوليون في اجتماعهم الختامي لتلمس ردود الفعل حول أوراق العمل التي قدمها كل منهم. وقد تناولت تلك الأوراق موضوعات وعناوين متعددة، راوحت بين الفهم النظري للعدالة الانتقالية ودراسات الحالة الخاصة ببعض البلدان من حيث التزامها بالعدالة الانتقالية وتطبيقاتها.
يعدّ تنفيذ آليات العدالة الانتقالية في الشرق الأوسط ظاهرةً حديثة نسبياً، وكذلك لايزال التحليل العلمي الإقليمي والمناقشات حول هذا الموضوع في المراحل الوليدة. وبالنظر إلى تجارب العدالة الانتقالية في مناطق أخرى من العالم، يمكن تقديم بعض الدروس للمهتمين والعاملين على مساعدة المجتمعات لمواجهة الفظائع الماضية. لقد تركز قدرٌ كبير من المؤلفات حول العدالة الانتقالية في أجزاء أخرى من العالم مثل أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية. ولكنْ نظراً لتعقيدات التحولات والتفاوتات بين السياقات الوطنية والسياسية المختلفة، لا توجد آليات أو أدوات شاملة للعدالة الانتقالية يمكن تطبيقها بشكل موحد. ذلك أن حجماً واحداً للعدالة الانتقالية لا يناسب الجميع، لكنّ الفحص المقارن للتجارب العالمية يسمح لنا بالحصول على فهم دقيق للأسئلة التي لابد من طرحها فيما يتعلق بإجراءات العدالة الانتقالية وأهدافها. وقد كشفت دراسة الحالات المختلفة التي تمت مناقشتها خلال الاجتماع الذي استمر مدة يومين تعقيدات العدالة الانتقالية ومستوياتها، على النحو المبين أدناه.
يدعو المدافعون عن العدالة الانتقالية على نحو متزايد إلى العدالة المتمركزة حول الضحية كوسيلة للدفاع عن أولئك الذين عانوا من المظالم وتعزيز المصالحة بين الضحايا والجناة. وبينما يبدو هذا منطقياً لتحقيق العدالة التي تركز على الضحية، فإن اعتماد هذا الأسلوب برهن على أن الأمر أكثر تعقيداً. أولاً، يتطلب تحديدُ احتياجات الضحايا الذين كانوا خاضعين لدولة قمعية فهمَ احتياجات مختلف الضحايا، والاعتراف بأن احتياجاتهم ورغباتهم قد تتغير بمرور الوقت. ثانياً، بفَرَض تحديد احتياجات الضحايا وأهدافهم، فإن البت في كيفية معالجتها يطرح أيضاً العديد من الخيارات. إذ ينبغي على الجهات الفاعلة على الأرض أن تقرر أيَّ تصميم أو آلية مؤسسية هي الأنسب لمعالجة أهداف الضحايا، سواء بالتعويض المادي أو بأشكال التعويضات المعنوية المتنوعة. ففي تونس، يسلِّط تصنيفُ المرأة كـ”ضحية ثانوية” الضوءَ على حقيقة أن مجرد تحديد من هم الذين كانوا بالفعل ضحايا للاضطهاد في الماضي يشكل تحدياً. الضحايا الثانوية هن أولئك اللواتي تعرضن للاضطهاد والسجن أو للمضايقات بسبب علاقتهن بالرجال الذين اعتُبروا خطراً على الدولة. وتقع معظم النساء في تونس ضمن هذه الفئة، ولاسيما نساء حركة النهضة اللواتي تحملن لعقود وطأة القمع الذي تمارسه الدولة. هذا التسلسل الهرمي لتصنيف الضحايا، والهبوط غير المقصود باحتياجات الإناث منهم إلى وضع الضحية الثانوية، يسلّط الضوء على التعقيد الماثل في تحديد احتياجات مختلف أعضاء المجتمع التونسي وكيفية تلبيتها.
وتوضح الحالة التونسية أيضاً بعض العناصر الأساسية الأخرى للعدالة الانتقالية. ففيما يتعلق بالإطار الزمني لتحقيق العدالة الانتقالية، ينبغي التساؤل عن بداية الانتقال، وإلى أي مدى يجب أن يذهب المجتمع إلى الوراء في معالجة مظالم الماضي؟ رأى المشاركون في فريق العمل أن الجهات السياسية الفاعلة المختلفة تدعو إلى نطاقات زمنية متفاوتة للعدالة الانتقالية على أساس رؤية تلك الجهات لدولة ما بعد بن علي. فبينما بدأت اللجان التحقيق في الانتهاكات التي وقعت بعد ديسمبر عام 2010، دعت حركة النهضة للعودة بالإطار الزمني حتى عام 1956 في محاولة لتفكيك الروايات الحداثية حول خصائص الدولة في عهد كل من بورقيبة وزين العابدين بن علي.
يعدّ إحياء المظالم والذاكرة الجماعية جانبين رئيسيين للعدالة الانتقالية في المجتمعات التي تتعامل مع الفظائع الماضية. ففي مصر ركز الممارسون في مجال العدالة الانتقالية على تدابير المساءلة وتنفيذ الإصلاحات المؤسسية، في حين أهملوا نسبياً مسألة إحياء مظالم الماضي. وقد لاحظ المشاركون أن المصريين بعدم تركيزهم على إحياء المظالم يجازفون بإقصاء روايات الماضي. أما عند جيرانهم في تونس والجزائر فقد لعب الاستشهاد دوراً مهيمنا في تشكيل الذاكرة الجماعية. وفي حين تمت إعادة صياغة الشهادة لأغراض “العدالة التاريخية” في تونس، فقد تم استخدامها في الجزائر من قبل النخب السياسية من أجل إحباط الجهود الرامية إلى تحقيق انتقال حقيقي.
ترتبط إعادة صياغة روايات الماضي برؤى المستقبل، بتسليطها الضوء على التلاعب المحتمل بآليات العدالة الانتقالية من قبل النخب الانتقالية. ففي ليبيا في مرحلة ما بعد القذافي مثلاً، نفذت الميليشيات الاسلامية عملية الاستبعاد السياسي وتابعتها بشغف كوسيلة لخوض معركة بالوكالة ضد خصومها السياسيين. إذ يستبعد قانونُ العزل السياسي الذي أقر في عام 2013 كلَّ الذين تورطوا مع نظام القذافي من المشاركة في الحياة العامة. وبهذا زادت سياسة الإقصاء من تفتيت النسيج الاجتماعي في ليبيا بدلاً من تشجيع المصالحة بعد الصراع. وتصبح المسألة حساسةً حين يمكن تعريض أعضاء المجتمع للمساءلة عن تصرفاتهم بينما يظلون مدرجين في إطار النظام. إن جهود التحرك نحو المساءلة تقلق المجتمع نظراً لأن أولئك الذين كانت لهم مصالح راسخة في النظام السياسي السابق سيخسرون أوضاعهم النسبية. وفي مناقشة مسألة السلام مقابل العدالة، أو بالأحرى، جدارة ما يسمى الاستقرار مقابل العدالة، تداول المشاركون في الاستبعاد السياسي المتطرف، من اجتثاث البعث في العراق إلى العفو الشامل في اليمن، والانعكاسات المجتمعية لمثل تلك الإجراءات. وفي مصر، نُفذت معالجة المساءلة بالدرجة الأولى في شكل محاكمات جنائية. وأشار المشاركون بهذا الشأن إلى أنه في حين مرت مطالب الثوار بمعالجة الانتهاكات الماضية لحقوق الإنسان عبر الهياكل القضائية، فإن تبرئة مبارك من تهمة انتهاك حقوق الإنسان جنباً إلى جنب مع الحكم على الكتلة المؤيدة لمرسي وتسريع محاكماتها والتجاهل النسبي للإجراءات القانونية السليمة، قد شوهت صورة القضاء كهيئة مستقلة. وهكذا لاحظ المشاركون، أنه مع امكانية تغير المناصب، قد لا يكون هناك في الواقع أي تحول حقيقي في مصر بسبب عمل المؤسسات الرئيسية للعدالة الانتقالية في الدولة – أي القضاء وقطاع الأمن – بطريقة استبدادية.
وبينما قد تشكِّل مصر مثالاً للانتقال الضحل، أدخلت بلدان أخرى في الشرق الأوسط آليات العدالة الانتقالية دون أي انتقال سياسي. فالأنظمة الملكية في البحرين والمغرب شكلت لجاناً لتقصي الحقائق. وحدد كلٌ من هيئة الإنصاف والمصالحة في المغرب واللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق، على وجه العموم، انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبها رجال الأمن. وقد عزز هذا الاعتراف الضمني بمسؤولية الحكومة مصداقيةَ الملِكيْن في كل من الدوائر المحلية والدولية. وبينما قد يشير توفير الروايات الصريحة إلى وجود تحول عن الاتجاه المعتاد “الإنكار والانعطاف”، لم تؤد لجان استقصاء الحقائق هذه إلى مساءلة كبيرة عن الجرائم التي سبق أن ارتكبها جناة معينون. ذلك أن ربط تنفيذ آليات العدالة الانتقالية مع الأداء في مجال حقوق الإنسان ليس عملاً بسيطاً. وكما لاحظ المشاركون، فإن التنفيذ الشامل لآليات العدالة الانتقالية – في كل من لجان تقصي الحقائق والمحاكمات – إلى جانب وجود بيئة سياسية ملائمة، قد يكون له تأثير إيجابي على الأداء في مجال حقوق الإنسان. ومع ذلك، يبقى أن العدالة الانتقالية هي أداة للسياسة العامة، وبالتالي فإن مجرد وجودها لا يشير إلى تحسن الأداء في مجال حقوق الإنسان. إلى ذلك، كرر المشاركون في المذكرة نفسها أن الإشكالية قد تكمن في تصور نقطة النهاية للعدالة الانتقالية.
يتبنى كثير من الأدبيات مقاربة غائية للعدالة الانتقالية بتصوره الدمقرطة نقطة الغاية المرجوة. وربما يرجع هذا الافتراض الشائع إلى حقيقة أن الكثير من الكتابات حول هذا الموضوع صدر في أمريكا اللاتينية. أما في سياق الشرق الأوسط، وفي محاولة لتوسيع نطاق سياق العدالة الانتقالية، يبقى السؤال الأساسي: ما الذي ننتقل إليه في العدالة الانتقالية؟
كتبت المقال دعاء عثمان، محلل البحوث في مركز الدراسات الدولية والإقليمية