وباء كوفيد-19 في دول مجلس التعاون الخليجي: مواطن الضعف الكامنة لدى العمالة المهاجرة

istock-1216276871.jpg

تعدّ ممالك الخليج العربية الست، البحرين والكويت وعُمان وقطر والسعودية والإمارات، من أكثر مناطق العالم كثافةً بالعمالة المهاجرة؛ إذ تشير تقديراتٌ حديثة إلى أن عدد هؤلاء في الدول الست يناهز 29 مليونًا من أصل 56 مليونًا يعيشون على أرضها تقريبًا؛ يشكّل المهاجرون المؤقتون الباحثون عن الرزق في مجموع هذه الدول نسبةً كبيرة من تعداد السكان، بل يفوق عددُهم في بعضها عددَ المواطنين بشكل كبير[1]. وفي خضمّ وباء كوفيد-19 العالمي، وفي ضوء التأكيدات التي تفيد بانتشار الفيروس في كافة أرجاء الخليج الفارسي، بات لزامًا توفيرُ سياساتٍ محددة الهدف لتلبية احتياجات مجتمع العمال المهاجرين. ولذا، لن تكون أيّة دولةٍ خليجية قادرةً لا على الحدّ من انتشار الفيروس، ولا على التخفيف من أثره اليومي على الحياة الاقتصادية والاجتماعية، ما لم تُدرِج فئةَ العمال في صُلب استراتيجياتها الوطنية لمكافحة الوباء والسيطرة عليه.

فالعمال في الخليج يواجهون مجموعةً من أوجه الضعف الصحية، التي تُعزى، جزئيًا على أقل تقدير، إلى أوضاعهم الاجتماعية-الاقتصادية المتدنية ومحدودية رأس المال الاجتماعي لديهم. وفي حالات الطوارئ الصحية الوطنية لا تزيد هذه القيودُ المخاطرَ المحتملة لتعرض العمال للإصابة بالمرض فحسب، بل وتقيّد جهودَ واضعي السياسات في الحدّ من انتشار العدوى. أما القضايا الأساسية التي طالما رُبطت بتدهور صحة العمال فتتضمن تردّي الظروف المعيشية، ومحدودية الموارد المالية، وظروف العمل الخطرة والصعبة، ونمط الحياة والسلوكيات الغذائية، وعدم إمكانية الحصول على الرعاية الصحية الكافية، والتهميش الاجتماعي. فنجد أن العمال ذوي الدخل المنخفض يميلون للعمل بكثافة مفرطة في القطاعات الأكثر خطورةً وإرهاقًا من الناحية الجسدية، ومنها قطاع التعمير وقطاع الإنتاج الصناعي. وكذلك الأمر في القطاعات الخدمية، حيث يشغل كثيرون وظائفَ تستلزم القُرب المتكرر من الآخرين، بل والمستمر أحيانًا.

على الجانب الآخر، يعيش العمال في مساكن مشتركة عالية الكثافة قليلة التكلفة، ما يعني تضاعُف احتمالات انتقال المرض بينهم بشكل كبير. وقد تلقّت مخيماتُ العمال المهاجرين والوحدات السكنية التي يوفرها لهم أرباب العمل في دول الخليج، انتقاداتٍ شديدة من جماعات المناصرة الدولية نظرًا للظروف المعيشية السيئة التي يكابدها العمال. فالاكتظاظ المفرط في الحيّز الفردي والمساحات المجتمعية، ومحدودية المطابخ ومرافق غسيل الملابس وضعف تجهيزها، وقلة أعداد دورات المياه وأماكن الاستحمام، كلّها عواملُ تجعل من العسير تلبية احتياجاتهم من الأغذية الأساسية ومستلزمات النظافة العامة والنظافة الصحية، وتفرضُ دون أدنى شك عبئًا إضافيًا على قدرة دول الخليج على تطبيق الإجراءات والتدابير التي اتخذتها لاحتواء كوفيد-19، كالتباعد الاجتماعي وتعقيم الأيدي بين هذه الأعداد الكبيرة من العمال. وبفضل ذلك، أضحت دول الخليج اليوم تدرك تمامَ الإدراك أهميةَ معالجة التحديات المرتبطة بسكن العمال. ولعلّه يكفي أن ننظر إلى ما حصل في سنغافورة التي قامت بعمل رائع في إدارة الموجة الأولى من الوباء ثمّ عانت أثناء الموجة الثانية وفشلت في فعل ما يكفي للحيلولة دون انتشار المرض بين أوساط الأعداد الكبيرة للعمال المهاجرين الذين يعيشون في مساكن مشتركة شديدة الاكتظاظ تشابه تلك الموجودة في دول الخليج. ففي الموجة الثانية بسنغافورة انتشر الوباء انتشارًا سريعًا، وخاصةً بين العمال المهاجرين ومن خلالهم.

وقد سلّطت الدراساتُ الموجودة حول أثر الحالات الصحية الطارئة على المهاجرين الضوء على أسباب إضافية تجعل العمال ذوي الدخل المنخفض لا يملكون الاستعداد الكافي لمجابهة الجائحة، ومن ذلك تدني مستوى التعليم لديهم بشكل عام، وافتقارهم إلى مهارات القراءة والكتابة وإتقان اللغات، والحساسيات الثقافية والاجتماعية المرتبطة بمناقشة القضايا الصحية ومعالجتها، وقلّة فرص الحصول على معلومات آنية ودقيقة بشأن الحقوق الصحية، والحصول المتقطع -والمتفاوت في أحسن الحالات- على الرعاية الصحية في الدولة المضيفة؛ وكلّ هذه قيودٌ تؤثر على قدرتهم على الاهتمام بصحتهم في الأيام العادية وتزيد من احتمالات إصابتهم بالأمراض إبّان حالات الطوارئ الصحية الحرجة التي تصيب المجتمع ككل، مثل التي نعيشها في يومنا هذا.

من ناحية أخرى، تتضمن عملياتُ منح التأشيرات في مختلف أنحاء العالم فحصَ العمال المحتملين لمعرفة أية أمراض قد يحملونها واستبعاد من يشكّلون خطرًا صحيًا على الدول المضيفة. فالعمال المهاجرون إلى دول الخليج يخضعون، حتى قبل مغادرة أوطانهم، لفحوص صحية صارمة تعتمد مبدأ “الاستبعاد قبل الوصول” في إدارة موضوع الهجرة والصحة العامة. فيُطلب منهم في بلدانهم إجراء فحوص صحية إلزامية قبل توقيع عقود العمل والحصول على سمات الدخول. وبسبب ذلك تنتاب العمالَ مشاعرُ الذعر والقلق من الفشل في اجتياز الاختبارات الطبية وبالتالي الحرمان من فرصة عمل يرغبونها بشدة خارج البلاد. ومن خلال احتكاكهم بالهيئات الطبية في المراحل الأولى لعملية الهجرة، يبدأ العمال بالسعي لزيادة رغبة الطرف الثاني في توظيفهم كعمال عبر تحسين نتائجهم الصحية. فالعمال “الأصحّاء”، في عملية التوظيف التنافسية للغاية، هم الذين سيحظون بفرصة العمل في منطقة الخليج. وهذا يقود العمال إلى الافتراض بأن “الأصحّاء” هم الوحيدون الذين سيحتفظون بأعمالهم، ما يخلق لديهم شعورًا دائمًا بالقلق وعدم الاستقرار بمجرد وصولهم إلى الدول المضيفة.

ويعزّز مخاوفَهم الاختباراتُ الطبية الدورية الإلزامية التي يخضعون لها في دول الخليج. صحيحٌ أن هذه الاختبارات تأتي في إطار إجراءات الصحة العامة التي تهدف للكشف المبكر عن أية أمراض معدية ومنع انتشارها على نطاق واسع، إلا أنها تفاقم من مشاعر القلق لدى العمال الذين يربطون نتيجة “إيجابي” بفسخ عقد العمل والترحيل. وبالنظر إلى أن العمال ذوي الدخل المنخفض اضطروا للاستدانة وقدموا تضحيات شخصية وعائلية للحصول على فرصة عمل خارج البلاد، يبدو مفهومًا تمامًا ترددُهم في الإبلاغ عن أية أعراض صحية أو مَرضية يصابون بها. وحتى لو كانت خسارة العمل والترحيل نتيجةً مستبعدة، فإنهم عادةً يخسرون إذا اضطروا لقضاء إجازة مَرضية مدفوعة الأجر في حال عدم قدرتهم على تأدية العمل. فالعمال ذوو الدخل المنخفض لا يستطيعون ببساطة تقبّل خسارة أجر بضعة أيام، ويشعرون أن عليهم العمل رغم الشعور بالمرض، وقد يخفون أعراض المرض عن أرباب العمل والمشرفين عليهم. وهذا الخوف من الاعتراف باعتلال الصحة والتردد في التعامل مع الهيئات الطبية يمكن أن يفرض تحدياتٍ على صعيدين اثنين، الأول معالجة اعتلال صحة العمال على نحوٍ كافٍ، والثاني تقويض جهود الدول في تشجيع العمال على الإبلاغ عن إصابتهم بأعراض كوفيد-19.

وإضافة إلى الضغط الذي يسببه احتمال فقدان العمل في دول الخليج نتيجةَ فحص طبي “إيجابي”، يعاني العامل المهاجر كذلك خوفًا شخصيًا يتمثل في الوصمة الاجتماعية المرتبطة بنتيجة الفحص الطبي الإيجابية لبعض الأمراض المنقولة، ومن أهمها بالنسبة للعمالة القادمة من جنوب آسيا الفحوص الدورية الخاصة بالسل وفيروس نقص المناعة المكتسب. فاختبارٌ نتيجته إيجابية لأحد هذين المرضين يمكن أن يؤدي إلى العار الاجتماعي وفقدان السمعة بالنسبة للمهاجرين المنحدرين من بيئات ثقافية معينة، مع ما يعنيه ذلك من عواقب اقتصادية واجتماعية مدمرة عليهم وعلى عائلاتهم. كما أن تواتر الفحوص الطبية لهذين المرضين، والذي يقتصر على بعض مجتمعات المهاجرين بدلاً من تطبيقها على مجتمع المهاجرين كلهم، يُظهر تحيّزات قائمة على أساس التمييز العنصري والطبقي في نُظم الوقاية من الأمراض المعدية. فالعمال المهاجرون يُنظر إليهم في أحيان كثيرة باعتبارهم حاملين رئيسيين لمجموعة من الأمراض المعدية وناقلين لها، وأصحابَ عاداتٍ صحية سيئة، ومن أتباع السلوكيات الاجتماعية والثقافية التي تهدد الصحة العامة للمجتمع. فالعمال ذوو الدخل المنخفض ينخرطون عادةً في الأعمال التي توصف بـ”القذارة” و”الخطورة”، ما يجعل الآخرين يربطون بين طبيعة عملهم وبُنيتهم الجسدية وسلوكياتهم في النظافة الشخصية. كما أن العديد من العمال معرّضون للإصابة باعتلال الصحة، ويُعزى ذلك جزئيًا إلى ظروف العمل التي تعرّض صحتهم للمخاطر.

إن تعرض العمال المهاجرين بدرجة كبيرة لخطر الإصابة بالمرض والوصمة الاجتماعية المرتبطة بذلك يزدادان خلال تفشي الأمراض المعدية، حيث يكون عموم السكان في حالةٍ من الخوف فيحاولون أحيانًا إيجاد سبب لتفشي المرض أو إلقاء اللوم على شخصٍ ما. وهنا يتعين على مسؤولي الصحة العامة والسلطات الطبية التنبؤ بذلك والمسارعة في التصدي لأي أنشطة عدائية محتملة ضد مجموعات العمال خلال الانتشار الحالي للوباء. وهذا شرطٌ لازمٌ ليس فقط لدرء الأذى الاجتماعي بحق الفئات السكانية المستضعفة، بل ولضمان فعالية التدابير المتخذة لاحتواء انتشار الفيروس. فالحملات المضلّلة والمغلوطة بحق بعض الفئات بوصفهم ناشرين للمرض إنما تشتّت الرأي العام وعموم السكان عن حقيقة أن الفيروسات، وفيروس كورونا تحديدًا، يهدّد سلامة الجميع ويمكن أن ينتقل من أي شخصِ كان للآخرين. 

لم تقم الدول المستضيفة في الخليج بجهودٍ كبيرة لمراعاة تعميم الاحتياجات الصحية للعمال وإدراجها ضمن أطر السياسات الصحية الوطنية لديها. ولذلك فإن وضع سياساتٍ صحية شاملة للعمال أمرٌ أساسي وممارسة جيدة في أي مكان يتواجد فيه هؤلاء بكثافة مثلما هي الحال في دول الخليج؛ إذ تشير التقديرات إلى أن العدد الحالي للعمال المهاجرين في العالم يبلغ 150 مليونًا، والكثير من هؤلاء يعانون في شتى بقاع الأرض من قيود صحية متشابهة. ومع ذلك لا يوجد التزام عالمي يفرض على الدول والهيئات الدولية تحقيق نتائج صحية محددة بالنسبة للعمالة المهاجرة.

لقد اتخذت البلدان المرسلة للعمالة في السنوات القليلة الماضية خطواتٍ أكثرَ استباقيةً لصياغة ممارسات ووضع سياساتٍ خاصة بصحة العمال المهاجرين، تتضمن فيما تتضمن دوراتٍ تدريبية قبل مواعيد السفر بهدف توعية العمال بجوانب الرعاية الصحية في الدول المضيفة، وخطط تأمين إلزامية لمعالجة مسألتَي الإعاقة والوفاة أثناء العمل في الدول المضيفة، وكذلك تدابير للمساعدة في حصول العمال العائدين على الرعاية الصحية الكافية في بلدانهم. وهنالك دراساتٌ كثيرة بيّنت بجلاء، على الصعيدين الفردي والجماعي، أن الهجرة تؤثر على الصحة. فالحالة الصحية تؤثر على قدرة الفرد الأولية على اتخاذ القرار بالهجرة، ناهيك عن أن القيام بالهجرة يمكن أن يؤثر إيجابًا أو سلبًا على المسار الصحي للفرد المهاجر على المدى الطويل. وعلى الجانب الآخر، فالهجرة بحدّ ذاتها لا تعني أن صحة جميع العمال قد تتدهور بالضرورة، بل إن هناك أدلةً تثبت أن الهجرة يمكن أن تحسّن النتائج الصحية للعمال. إذ، ليست الهجرة هي التي تسبّب بالضرورة نتائج صحية سيئة بل هي ظروف التعرض للأخطار والضعف التي تضع بعض فئات المهاجرين في خطر متزايد. وفي ظلّ غياب أطر عمل صحية عابرة للحدود، تفرض على جهات التوظيف والدول المرسلة وأرباب العمل والدول المضيفة التزاماتٍ صحية محددة وتحمّلهم مسؤولية تلبية الاحتياجات الصحية للعمال في مختلف مراحل فترة الهجرة/العمل، يظلّ التحدي الأساسي ضمان تلبية الاحتياجات الصحية للعمال ذوي الدخل المنخفض على المدى الطويل.

إن غياب الأطر الصحية الوطنية الخاصة بالعمال المهاجرين، والافتقار لوجود آلية تعاون عابرة للحدود لإدارة صحة العمال المهاجرين، يُضعِفان قدرة الدول على الإسراع في وضع سياساتٍ فعالة واتخاذ مبادرات تستهدف العمال تحديدًا في خضمّ انتشار الوباء، أيِّ وباء. ومع ذلك، لعلّ انتشار كوفيد-19 وطريقة إدارة دول الخليج له سيتمخضان عن إيجاد ظروف أكثر ملاءمةً داخل هذه الدول تحقق نتائج صحية أفضل للعمال المهاجرين ذوي الدخل المنخفض، ما سيؤدي بدوره لإرساء بيئةٍ أكثر مواتاة لهؤلاء العمال على المدى الطويل.

 

زهرة بابار، المدير المشارك لمركز الدراسات الدولية والإقليمية

 

 

للاطلاع على المزيد في هذا الشأن:

سنا الحراحشة وآخرون، “تحسين صحة العمال الذكور العازبين في قطر”:              

Al- Harahsheh, Sana, Feras Al-Meer, Zahra Babar, Maha El-Akoum, Mehran Kamrava, and M. Walid Qoronfleh,  “Improving Single Male Laborers’ Health in Qatar,” CIRS/WISH Policy Brief, November, 2019. https://repository.library.georgetown.edu/bitstream/handle/10822/1056859

عبدالباري بنير، “الأوضاع الصحية للعمال المهاجرين وظروف عملهم: مشكلات الصحة العامة الرئيسية”:

Bener, Abdulbari. “Health Status and Working Condition of Migrant Workers: Major Public Health Problems.” The International Journal of Preventative Medicine, Vol 8, No. 68 (2017): 1-5.

أياز قريشي، “العنف الهيكلي والدولة: نقص المناعة المكتسب وهجرة العمال من باكستان إلى الخليج الفارسي”:

Qureshi, Ayaz. “Structural Violence and the State: HIV and Labour Migration from Pakistan to the Persian Gulf.” Anthropology & Medicine 20, no. 3 (December 1, 2013): 209–20. https://doi.org/10.1080/13648470.2013.828274.

جيسن هيكي وآخرون، “المعارف بشأن الاستعداد لوباء الإنفلونزا في أوساط المهاجرين المستضعفين في تايلاند”:

Hickey, Jason, Anita J. Gagnon, Nigoon Jitthai. “Knowledge about pandemic influenza preparedness among vulnerable migrants in Thailand.” Health Promotion International, Volume 31, Issue 1, March 2016, Pages 124–132, https://doi.org/10.1093/heapro/dau074

مونيكا شوتش-سبانا وآخرون، “الوصمة والفوارق الصحية ووباء إنفلونزا الخنازير: كيفية حماية عمال المزارع اللاتينيين في حالات الطوارئ الصحية مستقبلاً”:

Schoch-Spana, Monica, Nidhi Bouri, Kunal J. Rambhia, and Ann Norwood. “Stigma, Health Disparities, and the 2009 H1N1 Influenza Pandemic: How to Protect Latino Farmworkers in Future Health Emergencies.” Biosecurity and Bioterrorism: Biodefense Strategy, Practice, and Science 8, no. 3 (2010): 243–54. https://doi.org/10.1089/bsp.2010.0021.

Willen, Sarah S., Jessica Mulligan, and Heide Castañeda. “Take a Stand Commentary: How Can Medical Anthropologists Contribute to Contemporary Conversations on “Illegal” Im/migration and Health?” Medical Anthropology Quarterly 25, no. 3 (2011): 331-56. Accessed April 7, 2020. www.jstor.org/stable/23012080.