فيروس كوفيد-19 في دول الخليج وخطة التعليم لعام 2030: الدروس المستقاة من الأزمة

istock-503112638.jpg

لا نزال نعايش أزمة كورونا وما تطالعنا به من أرقام صاعقة؛ فبحلول أوائل أبريل الماضي، تأثر ما يربو على مليون ونصف متعلم – أي ما يزيد عن 90% من الطلاب في 188 دولة على مستوى العالم – بسبب إغلاق المدارس والكليات والجامعات جرّاء تفشي فيروس كورونا المستجد “كوفيد-19″[1]. وعلى الرغم من تناقص هذه الأرقام والنسب تدريجيًا في الوقت الحالي، فلا يساورنا شكٌ في أننا شهدنا – وما زلنا نعاني – أكبر تعطُّل في مسار نظام التعليم العالمي في تاريخنا المعاصر. ويرى العديد أن هذه الأزمة كشفت لنا عن فرصة ذهبية تتيح “إعادة البناء بصورة أفضل” [2]؛ غير أنه لا يزال من الصعب في هذه المرحلة المبكرة أن نرى أبعد من أرقام الخسائر الحالية.

وينبغي التسليم بأنه حتى قبل انتشار هذه الجائحة في شتّى أنحاء العالم، وما استتبعها من تحطُم الاقتصادات وتوقف عجلة الحياة الاجتماعية، لم يكن المجتمع العالمي في المسار الصحيح الذي يمكّنه من الوفاء بالتزاماته صوب توفير تعليم شامل وعادل وجيدٍ للجميع في إطار “خطة أهداف التنمية المستدامة 2030”. وفي يوليو من عام 2019، أي قبل ستة أشهر من تسجيل أول إصابة بهذا الفيروس، نشر معهد اليونسكو للإحصاء والفريق المعني بالتقرير العالمي لرصد التعليم أول تقديرات من نوعها بشأن التقدم المحرز في تحقيق الهدف الرابع من أهداف التنمية المستدامة[3]. واستنادًا إلى البيانات والاتجاهات المتاحة، تنبأ أعضاء المعهد والفريق أن أكثر من 220 مليون طفل ومراهق وشاب لن يلتحقوا بالمدارس بحلول عام 2030؛ وأن أربعة من كل عشرة شُبّان لن يكملوا المرحلة الثانوية؛ وسيصل عدد الكبار غير القادرين على القراءة إلى 750 مليون شخص [4].

كما أظهر التقرير إلى أنه من الناحية المالية، أنفق ربع البلدان أقل من النسبة الموصى بها (وهي 4-6%) من الناتج المحلي الإجمالي على التعليم، بل وخصص للتعليم أقل من 15-20% من مجموع الإنفاق العام[5]. وحتى في دول الخليج ذات الدخل المرتفع، لم تتحقق هذه الأهداف في غالب الأحيان. وتشير أحدث البيانات الخاصة بدولة قطر إلى أنها خصصت للتعليم في عام 2017 نسبة 2,9% من الناتج المحلي الإجمالي و8.9 من مجموع الإنفاق العام؛ فيما خصصت البحرين لقطاع التعليم عن نفس العام 2,7% و7,5 من الناتج المحلي ومجموع الإنفاق على التوالي (باستثناء سلطنة عمان التي خصصت ما نسبته 6,7 و16%)[6]. وعلى الرغم من أننا نواجه في الوقت الراهن ما تصفه الأمم المتحدة بأنه “ركود تاريخي بمستويات غير مسبوقة من الحرمان والبطالة، بما يفضي إلى أزمة إنسانية لم يشهدها العالم من قبل”[7]، فمن غير المعروف بعد ما إذا كانت النُظم التعليمية التي تعاني من نقص التمويل ستحصل على الموارد التي تحتاج إليها بغية معالجة عدم التقدم المحرز في تحقيق الهدف الرابع من أهداف التنمية المستدامة، وكذلك ضمان التعافي المستدام على المدى الطويل وتعزيز قدرة النُظم على التأقلم والصمود إثر انتهاء أزمة كورونا الحالية.

في ضوء هذا السياق، يتبين لنا جسامة التحديات الرئيسة التي واجهتها الحكومة في قطاع التعليم نتيجةً لانتشار هذه الجائحة وما أسفرت عنه من إغلاق المدارس والكليات والجامعات، فضلاً عن اختلاف الظروف من بلدٍ لآخر؛ غير أن بعض هذه التحديات معروفٌ للجميع، بما في ذلك دول الخليج. فعلى سبيل المثال، بادر المعلمون وأولياء الأمور ومقدمو الرعاية في جميع أنحاء العالم إلى بذل قصارى جهدهم بغية استمرار التعلّم على نحو طبيعي قدر الإمكان، ومع ذلك توقفت العملية التعليمية بالنسبة للعديد من الطلاب، وأفضى ذلك إلى خسائر حتمّية في التعلّم. كما قررت دول عدّة إرجاء أو إلغاء التقييمات والاختبارات التي كانت مقررة لتمكين الطلاب من التخرج، نظرًا للتحديات الخاصة التي شابت نظام التعلّم عن بُعد، ومنها تعذّر قياس نتائج التعلّم والتحقق منها بدقة، وصعوبة مراقبة الاختبارات الإلكترونية، وعدم دقة نتائج ضمان الجودة[8]. وثمة باعث قلق آخر يواجه طلاب المرحلة الثانوية ممّن يأملون في الالتحاق بالكليات الجامعية يتمثل في احتمالية ألا يتمكن هؤلاء الطلاب الآن من التسجيل قبل انقضاء الموعد النهائي لتقديم طلبات الالتحاق. وستكشف الأيام المقبلة عن جملة من التداعيات التي ستلقي بظلالها السلبية على كلٍ من المؤسسات التعليمية وأعداد القوى العاملة مستقبلاً.

وعلى الرغم من أن العديد من نُظم التعليم العام والمؤسسات التعليمية تمتلك سنوات من الخبرة في استخدام المنصات الإلكترونية، فلم تكن أي منها مستعدة تمامًا لإدارة هذا الانتقال الكامل والخاطف من غُرف الصفوف الدراسية إلى فضاء منصات التعلّم الإلكترونية والقنوات المرئية والمسموعة؛ وكذلك وجد المعلمون أنفسهم في موقف لم يألفوه من قبل، إذ طُلب منهم فجأة تعديل طرق التدريس ومواد التعلم وتكييفها لتتناسب مع بيئة جديدة تنطوي على قدرٍ كبير من الصعوبة، دون حصولهم على التدريب والدعم الكافيين لإنجاز هذه المهمة[9]؛ ولم يكن أولياء الأمور ومقدمي الرعاية أفضل حالاً في هذا الوضع، فقد فُرض عليهم بجانب عملهم وواجباتهم الأخرى قضاء العديد من الساعات في الإشراف على تعلّم أبنائهم من المنزل. وازدادت هذه المشكلات تفاقمًا بسبب مخاوف تدهور الصحة العامة والرفاه لكل فئة من الفئات المذكورة في غمار هذه الظروف المبهمة المنطوية على جملة من الضغوطات بالغة الصعوبة [10].

علاوةً على ذلك، كشفت عمليات الإغلاق المذكورة عن جانب سلبي آخر يتجلى في انعدام المساواة في الوصول إلى التكنولوجيا بين المتعلمين في جميع أنحاء العالم، ناهيك عن اتساع الفجوة الرقمية القائمة[11]؛ وتشير الإحصاءات إلى تعذّر اتصال 3,6 مليار شخص بالإنترنت على مستوى العالم، ووُجد أن معظم هؤلاء الأشخاص يعيشون في البلدان الأقل نموًا[12]. كما وُجد أن الأُسر التي لا تمتلك اتصالاً بالإنترنت (أو التي لديها اتصال محدود به) وكذلك التي لا تمتلك جهاز حاسوب (أو تمتلك جهازًا واحدًا فحسب) تكابد مشقة كبيرة لضمان توفير التعلّم لأبنائها داخل المنازل، لا سيّما إن كان لدى هذه الأسر أكثر من طفل في سن الدراسة. أمّا الأطفال ذوي الإعاقة أو من يعانون من صعوبات التعلّم، فإنهم يواجهون مع أسرهم مجموعة أخرى من العوائق، على الرغم من سعي بعض الوزارات إلى الحرص على وصول هؤلاء الأطفال إلى مواد التعلم من خلال العرض النصي للحوار والاستعانة بمترجمي لغة الإشارة في الدروس المنقولة لهم عبر قنوات التلفزيون أو المقاطع المرئية[13].

ومع وجود بعض الاختلافات في النهج المتبع، سواء بدرجة أكبر أو أقل، فقد تعاملت دول الخليج بنجاعة مع حتمية إغلاق المدارس وبذلت جهودًا حثيثة لضمان استمرار عملية التعلّم من خلال الاستعانة بالوسائل البديلة. وفي منطقة الخليج وحدها، تأثر ما يزيد عن 10 مليون طالب وطالبة في مرحلة الروضة حتى الصف الثاني عشر[14]؛ صحيحٌ أنه تعذّر اجتناب طائفة من الصعوبات والمشكلات الأولية، إلا أن قطاعات التعليم العام ذات الموارد الجيدة قد أسهمت في تخفيف حدة الآثار السيئة الناجمة عن هذه المشكلات. فعلى مستوى دولة قطر، عانى الطلاب وأولياء الأمور من صعوبة الدخول إلى نظام إدارة التعلّم لمشاهدة الدروس التعليمية ولم يتمكن النظام من استيعاب هذه الأعداد، وعلى الفور اتخذت وزارة التعليم والتعليم العالي قرارها بالتحول إلى منصة “مايكروسوفت تيمز” التي استوعبت دخول ما يصل إلى 300 ألف مستخدم في وقت واحد. وعندما شرعت حكومة الكويت في عمليات الإغلاق، أثنت وزارة التربية الكويتية المدارس عن استخدام منصات التعلّم الإلكترونية[15] حتى تتمكن من تقييم كل البدائل المتاحة، ثمّ اتخذت قرارها بنهاية شهر مارس الماضي بالسماح لجميع المدارس بالبدء في الاستعانة بنظام التعلّم الإلكتروني. وفي الإمارات، أطلق فريق مبادرات محمد بن راشد آل مكتوم العالمية منصة “مدرسة”، التي توفر محتوىً تعليميًا متاحًا بالمجان لأكثر من 50 مليون طالب عربي[16]. كما أطلقت دولة قطر وعُمان قنوات تلفزيونية مخصصة لتقديم الدروس، واستعانت وزارات التربية والتعليم في دول الخليج بموقع “يوتيوب” على نطاق واسع لزيادة وصول الطلاب إلى المواد التعليمية وتعظيم الاستفادة منها.

ثمّة العديد من الأمثلة الجيدة أيضًا على تعاون الحكومات مع مقدمي خدمات الإنترنت بغية تسهيل التعلّم الإلكتروني، ومن ذلك التعاون الناجع بين شركة اتصالات قطر “أوريدو” ووزارة التعليم والتعليم العالي من خلال “شراكة التحول الرقمي”[17]؛ أمّا في عُمان فقد بادرت “أوريدو” إلى ترقية باقات اشتراكات الإنترنت للمؤسسات التعليمية وتعزيز سرعتها من أجل مساعدة أولياء الأمور والطلاب في عملية التعلم من المنزل[18]. (وفي المقابل، نجد في اليمن – الذي يواجه بالفعل احتمال انهيار نظامه التعليمي بكامله، ويفتقر تمامًا إلى القوى العاملة في مجال التدريس بسبب عمليات التشريد والتخلف عن دفع الأجور – أن الحكومة تسعى بصعوبة بالغة إلى ضمان انخراط الطلاب في الاستماع إلى الدروس التعليمية المقدمة لهم عبر القنوات الإذاعية المسموعة).

وعلى الرغم مما سبق، ظهرت مجموعة من التحديات غير المسبوقة في دول الخليج – التي تفوق أعداد الوافدين والمغتربين بها عدد المواطنين في كثير من الأحيان، والتي تتسم أيضًا بوجود نُظم التعليم المتوازية[19]. كما تقل الموارد المتاحة في العديد من “المدارس المجتمعية” غير الحكومية كثيرًا مقارنةً بالمدارس العامة، فهي تتقاضى الرسوم الدراسية من أولياء الأمور، ولا تحصل على نفس المستوى من الدعم الحكومي. أضف إلى ذلك أن هذه المدارس المجتمعية تقدم خدماتها التعليمية إلى الأطفال الوافدين من البلدان ذات الدخل المنخفض، من دول جنوب آسيا وإفريقيا؛ وبوجه عام، تُركت هذه المدارس للاعتماد على ما لديها من موارد في أثناء فترة الإغلاق، مع الأخذ في الاعتبار أن أكثرية الأُسر والطلاب المحرومين في هذه المدارس غير مؤهلين للحصول على الدعم التعليمي من الحكومة. وفي دولة قطر، أطلقت إدارة المدارس الخاصة في وزارة التعليم والتعليم العالي مبادرة كريمة لدعم عدد من الطلاب المحرومين في المدارس الخاصة من خلال توزيع جهاز حاسوب لكل أُسرة[20]، إلا أنه لا يمكن الجزم بتقديم دعم حكومي من هذا النوع على نطاق واسع في باقي دول الخليج. ويندُر كذلك وجود البيانات دون الإقليمية حول الأطفال غير الملتحقين بالمدارس[21]، بل وهناك احتمال كبير أن يزداد عدد المتسربين من التعليم بصورة ملموسة نتيجة لتعذّر الوصول إلى التكنولوجيا وتوقف عملية التعلّم بسبب إغلاق المدارس لفترات طويلة. وعلى الرغم من ارتفاع مستوى الإلمام باستخدام التكنولوجيا في أوساط المعلمين والتربويين، والسعي لسنوات عدّة نحو التحول إلى الاقتصاد القائم على المعرفة والشمولية الرقمية، فقد تكشف للحكومات في دول الخليج وجود فجوات كبيرة في القدرات بين المعلمين من المواطنين والوافدين على حدٍ سواء.

إذن كيف يبدو مستقبل التعليم في دول الخليج؟ للإجابة عن ذلك نقول إنه مع وضوح مدى الصدمة الاقتصادية التي تعرضت لها دول العالم، فقد بتنا ندرك أن الانخفاض الحاد في أسعار النفط، مقترنًا بالأزمات المتزامنة التي اجتاحت قطاعي الصحة والتجارة، سيؤدي إلى عجز كبير في ميزانيات الدول[22]. فعلى سبيل المثال، أعلنت البحرين في شهر أبريل عن تخفيض إنفاق الوزارات والهيئات التابعة لها بنسبة 30% لمساعدة البلاد على اجتياز تداعيات تفشي فيروس كورونا، وذلك في أعقاب اتخاذ إجراءات مماثلة من جانب السعودية وعُمان[23]. ومن غير الواضح ما إذا كانت وزارات التعليم ستتأثر بسبب هذه التخفيضات وكيفية هذا التأثر من عدمه[24]، إلا أن الواقع يشير إلى أن دول الخليج لديها القدرة والموارد اللازمة لإجراء التغييرات المهمة في نُظمها التعليمية التي باتت حتمية لتعافي هذه الأنظمة وتعزيز قدرتها على المرونة والتكيف مع الأوضاع المستقبلية.

وعندما تفتح المدارس أبوابها مرةً أخرى، سيتعين على وزارات التعليم أن تبادر إلى تقييم جدوى الخيارات الإصلاحية والتعويضية واسعة النطاق من أجل تدارك ما فاتها في عملية التعلُّم، على أن يكون ذلك مشفوعًا بالعمل الوثيق مع الجهات الحكومية الأخرى بغية تطبيق معايير النظافة والصحة العامة الملائمة للحد قدر الإمكان من المخاطر التي يتعرض لها الطلاب ومنسوبي العملية التعليمية [25]. وأمام الوزارات والجهات المعنية فرصة مواتية لإعادة التفكير في مستقبل التعليم وتعزيز المرونة والقدرة على مواجهة الأزمات من خلال تحسين السياسات والخطط الموضوعة، وكذا من خلال الحد من مخاطر الأزمات وإدارتها في قطاع التعليم في إطار التقيُّد باستراتيجية مؤسسية ناجعة. وعليها أيضًا العمل على ضمان إعداد المعلمين ودعمهم بصورة فعّالة والاعتماد على قدراتهم الخاصة في تعزيز التعلُّم عن بُعد والارتقاء به على نحو أكثر شمولية ومرونة وإبداعًا من الوضع الراهن. كما يجب علينا أن نفكّر في إجراء تغييرات جوهرية ومبتكرة تمهد الطريق أمام نشر الثقافة الصحية والوعي بأهمية البيئة وإعلاء قيم المواطنة العالمية بصورة تامة ضمن المناهج والمقررات الدراسية لضمان تزويد الطلاب والمتعلمين بمهارات القرن الحادي والعشرين التي يحتاجون إليها للانخراط في عالمنا الجديد وما يكتنفه من تعقيد. وبقدر ما انطوت عليه هذه الجائحة من صعوبات جمّة، إلا أنها تمثل فرصة سانحة في حد ذاتها للاستفادة منها، ولدى دول الخليج القدرة على تحقيق إنجازات تتجاوز مجرد استعادة الأمور إلى سابق عهدها.

 

منظمة اليونسكو هي وكالة الأمم المتحدة المعنية بقيادة خطة التعليم لعام 2030. وعلى الصعيد العالمي، تركزت استراتيجية اليونسكو للاستجابة لجائحة فيروس كورونا المستجد “كوفيد-19” على تعزيز التنسيق وإقامة الشراكات بين القطاعين العام والخاص وحشد الموارد وتوفير المساعدة الفنية للدول الأعضاء ونشر المعلومات والمصادر اللازمة وإجراء عمليات الرصد والمتابعة. ويشمل نطاق عمل مكتب اليونسكو في الدوحة ست دول خليجية إضافةً إلى اليمن. ولمزيد من المعلومات، تفضّل بمطالعة الرابطين التاليين: https://en.unesco.org/covid19 و https://en.unesco.org/fieldoffice/doha.

 

 

كتبت المقال كيتلين سباركس، المنسقة المساعدة لبرنامج التعليم في مكتب اليونسكو الإقليمي بالدوحة.

 

طالع المزيد عن مشروع كوفيد البحثي من خلال هذا الرابط.