القيود المفروضة بسبب فيروس كورونا المستجد والتوترات الطائفية في الشرق الأوسط

istock-610979058.jpg

أرغمت جائحة فيروس كورونا المستجد “كوفيد-19” الحكومات في جميع أنحاء العالم على فرض جملة من القيود التي كبّلت حياة المواطنين اليومية، ومن ذلك تقييد تحركاتهم بهدف الحد من انتشار الفيروس في أوساط المجتمع؛ وكان لهذه التدابير آثار متشعبة طالت مختلف مناحي الحياة الاجتماعية، بما فيها الممارسات الدينية المجتمعية. وفي سبيل التصدي لهذه الجائحة، عمدت دول مجلس التعاون الخليجي الست إلى إغلاق المساجد ومنع إقامة الصلوات الجماعية فيها، وحظر الدخول إلى البقاع والأماكن المقدّسة، فضلاً عن إغلاق دور العبادة الأخرى من كنائس ومعابد وغيرها من مراكز الصلاة المجتمعية. كذلك، قررت المملكة العربية السعودية إلغاء موسم الحجّ والعمرة لهذا العام، وأغلقت إيران عددًا من مزاراتها الشيعية، فيما فعل العراق الشيء نفسه مع بعض أضرحته المقدّسة. وقد بررت الحكومات إغلاق هذه الأماكن الدينية وكذلك تعليق أداء المناسك المعهودة والطقوس المتعارف عليها بأنه إجراء صعب ولكن لا مفرّ منه للحفاظ على صحة الناس وسلامتهم؛ فالتجارب والبيانات تشيران إلى أن التجمّعات التي تضم أعدادًا كبيرة من الأشخاص في الأماكن الدينية تشكّل خطرًا لانتشار الفيروس. وعلى الرغم من إقدام الحكومات الخليجية على استخدام الصحة العامة كوسيلة تسوّغ لها تقييد الممارسات الدينية في ظل التوترات الطائفية التي تموج بها المنطقة، فثمّة تخوف من أن تؤدي بعض تلك التدابير إلى تأجيج هذه التوترات، ناهيك عن أن تستغلها الدول عن قصدٍ منها في تقويض الحقوق الدينية المكفولة لطوائف بعينها في سبيل تحقيق غايات محددة.

وقد أبدَت الطوائف الدينية في هذه الدول تحفظاتها إزاء قرارات الحكومات، وارتأت بعض المجموعات المهمّشة أن هذه التدخلات المتذرَّع بها للحفاظ على الصحة العامة ما هي إلا وسيلة أخرى تستعين بها الدول الاستبدادية في المنطقة بغية تحقيق مآرب سياسية خاصة بها. وتبعًا لهذا، فُسّرت القيود المفروضة على ممارسة الشعائر الدينية بأنها لا تتضارب مع الحق في حرية التعبير الديني فحسب، بل هي أيضًا أداة لقمع طوائف دينية بعينها واضطهادها وإحكام السيطرة عليها.

في مطلع مارس الماضي، اتخذت الحكومة السعودية إجراءها بعزل محافظة القطيف، التي تقع شرق البلاد وتبعد نحو 400 كيلومتر عن العاصمة الرياض ويبلغ تعداد الشيعة بها زهاء 500 ألف شخص، بعدما أعلنت المملكة أن القطيف باتت بؤرة لتفشي الفيروس، واستتبع ذلك وضع المنطقة تحت الإغلاق الكامل قرابة شهرين تخللها حظر كافة التحركات داخل المحافظة وخارجها. صحيحٌ أن المسؤولين السعوديين قرروا تخفيف حالة الإغلاق مؤخرًا، إلا أن حظر التجوّل ما زال قائمًا بما يحد من تحركات الأشخاص وتنقلهم. وعلى الرغم من ظهور حالات إصابة بفيروس كورونا المستجد في مناطق أخرى بالمملكة، تبقى القطيف المحافظة الوحيدة التي فرضت عليها الحكومة السعودية عزلاً محكمًا خلال هذه الأزمة. ومما يُذكر في هذا السياق أن الفترة الماضية شهدت تأزُمًا مستمرًا في العلاقات بين المجتمع الشيعي في المنطقة وحكومة المملكة السُنِّيّة، حيث تعرضت الأقليات الشيعية في جميع أنحاء المملكة إلى تهميش وتمييز تاريخي على يد الدولة السعودية؛ ولهذا تنظر المرجعيات الدينية والنشطاء الشيعة إلى هذا الإغلاق الانتقائي بوصفه انعكاسًا لدوافع المملكة تجاه إذكاء الطائفية. وقد علّلت المملكة العربية السعودية رسميًا أن هذا الانتقاء في القرارات ينبع من إدراكها الخطر المحدّق بالصحة العامة، إذ يتردد كثير من الناس في القطيف إلى إيران لزيارة المقامات الشيعية بها، ثم يعودون إلى المملكة مرة أخرى حاملين المرض معهم. وفي حين منعت السعودية مواطنيها رسميًا من السفر إلى إيران منذ عام 2016، لا يزال سفر الشيعة من المملكة مستمرًا تلقاء الأضرحة الكبرى في إيران، لا سيّما في مدينتي “قُم” و”مشهد”، والتي يشدّون الرحال إليها في العادة عن طريق الكويت والعراق وعمان والإمارات العربية المتحدة.

وبعض دول مجلس التعاون، كالسعودية والبحرين والكويت، تُنحي باللائمة على إيران لنشر العدوى في المنطقة، حيث سجّلت إيران أول إصابة بفيروس كورونا المستجد في 19 فبراير الماضي. وأفضى عدم إسراع المسؤولين الحكوميين الإيرانيين في اتخاذ الإجراءات المناسبة وغضّهم الطرف عن الأزمة القائمة إلى إصابة العديد منهم أيضًا بهذا المرض (من بينهم نائب وزير الصحة الإيراني إيراج حريرجي)، وبنهاية شهر فبراير شهدت إيران زيادة سريعة في عدد الحالات المُصابة وأمست ثاني أكبر بؤرة لفيروس كورونا بعد الصين. وعلى إثر ذلك بدأت العديد من الدول المجاورة في الإعلان عن زيادة أعداد المصابين داخلها، وعزت هذه الزيادة إلى عودة مسلمي الشيعة وغيرهم من الزائرين من إيران.

من جانبها، ذكرت منظمة السياحة العالمية التابعة للأمم المتحدة أن إيران قد شهدت نموًا مطّردًا في مجال السياحة الدينية، حيث بلغ عدد زائريها 7,29 مليون سائح أجنبي خلال عام 2018؛ كما تشير البيانات المتاحة إلى أن نحو 24% من هؤلاء السائحين قدموا من العراق و2% من البحرين. جديرٌ بالذكر أن الأماكن المقدّسة في إيران تفتح أبوابها أمام زائريها طيلة العام، إلا أن عددًا كبيرًا منهم يزورون هذه الأماكن خلال الأشهر والمناسبات المهمة، كشهر مُحَرَّم وذكرى مقتل بعض الشخوص المقدّسة عند الشيعة وإقامة مراسم إزالة الغبار – وهو نُسك شيعي يتخلله تنظيف الأضرحة والمساجد المقدّسة وغسلها وتطييبها، ويتردد الأشخاص من دول مجلس التعاون إلى هذه الأماكن سنويًا رفقة واحدٍ أو أكثر من أفراد أسرِهم.

ولطالما كانت إيران الغريم الإقليمي للمملكة العربية السعودية منذ عهدٍ بعيد، وغالبًا ما نظرت الحكومة السعودية إلى مسلمي الشيعة السعوديين بعين الارتياب، بل ورَمتهم بانقسام ولائهم؛ ما بثّ الخوف في نفوس المواطنين الشيعة بالمملكة بأنه حتى وإن انخفضت معدّلات الإصابة بفيروس “كوفيد-19″، فستُبقي الحكومة السعودية على بعض القيود سعيًا منها إلى زيادة تقييد دخولهم إلى القطيف والخروج منها، علاوةً على منعهم من توطيد أواصر العلاقات مع المجتمعات الشيعية المجاورة التي لا تقتصر على إيران فحسب بل تمتد أيضًا إلى العراق والبحرين.

على غرار ذلك، يمكن رصد مثل هذه التطورات في الداخل البحريني، حيث ماطلت الحكومة البحرينية في عودة ما يزيد عن ألف حاجّ شيعي من إيران إلى البلاد حتى منتصف أبريل الماضي بسبب تداعيات فيروس كورونا المستجد؛ على الرغم من أن المواطنين البحرينيين الذين كانوا في زيارة إلى دولٍ أخرى – كالإمارات وعمان والأردن ومصر وتركيا – إبان تفشّي المرض بالمنطقة، قد تمكّنوا من العودة إلى البحرين دون أي تأخير أو إعاقة. أمّا هؤلاء المواطنين الشيعة فقد كانوا في “مدينة” مشهد الإيرانية لزيارة ضريح ثامن الأئمة الشيعة علي بن موسى الرضا، وآثرت الحكومة البحرينية تركهم معلقّين في إيران لما يربو على شهرين دون أي توجيه واضح لهم بشأن موعد عودتهم أو إبقائهم في الحجر الصحي داخل منازلهم أو في المراكز المخصصة لذلك. ووجّهت البحرين، شأنها شأن جارتها السعودية، أصابع الاتهام إلى إيران جرّاء زيادة أعداد الحالات المصابة بالفيروس داخل البلاد، وعمدت إلى توبيخ طهران على عدم اتخاذها مزيدًا من الإجراءات الاحترازية اللازمة.

وعلى الرغم من أن الشيعة يشكّلون أكثر من 75% من تعداد السكان في البحرين، فإنهم يخضعون لإشراف حكومة سنيّة، ويقاسون من تمييز متكرر من جانب الدولة. وازداد هذا الوضع تفاقمًا عقب اندلاع ثورات الربيع العربي عام 2011، إذ أُلقي على كاهل الشيعة مسؤولية الانتفاضة ضد الحكومة البحرينية. يُضاف إلى ما سبق أن البحرين أيضًا تعتبر إيران غريمها الإقليمي، وكثيرًا ما أنحت باللائمة على طهران بسبب إذكائها الاضطرابات الطائفية في البلاد. واتخذت حكومة البحرين على مرّ السنين إجراءات عدّة لمناوأة الشيعة داخل البلاد، ومنها منح الجنسية البحرينية – التي يصعب الحصول عليها في أيٍ من دول مجلس التعاون – إلى المسلمين السنّة من غير البحرينيين بغية زيادة عددهم بين المواطنين المحليين. وعلى ما يبدو أن الحكومة تعمد في الوقت الراهن إلى تطبيق التدابير التقييدية بسبب جائحة “كوفيد-19” لمنع الدخول إلى البلاد والخروج منها، وذلك لإحكام سيطرتها على الشيعة داخل المملكة.

عودٌ على ما سبق، تنظر بعض طوائف المجتمعات في الشرق الأوسط إلى التدابير المتخذّة للحد من انتشار جائحة “كوفيد-19” على أنها ذريعة تستغلها الحكومات للتعدّي على حقوق التعبير الديني المكفولة للجميع. ويظلّ التساؤل الذي يعتمل في أذهان العديد من المسلمين على مستوى الشرق الأوسط وفي ربوع العالم، هو ما إذا كانوا سيتمكنون من العودة إلى ممارسة شعائرهم الدينية التي ألفوا ممارستها قبل اندلاع الأزمة، أم ستستمرِئ الحكومات تطبيق القيود المفروضة على ممارسة الشعائر في سنوات ما بعد انتهاء الفيروس بقصد احتواء المعارضة الدينية، وتهميش حرية الأقليات في التعبير الديني، ومنع الممارسات الدينية التي يُنظر إليها على أنها وسيلة لبناء العلاقات مع الأنظمة والدول المُعادية. لقد أعملت هذه الجائحة يدها في كافة مناحي الحياة، وستستمر هذه السياسات والتدابير الجديدة في التأثير على الممارسات الدينية وغيرها كلما تفاقم الوضع؛ من هنا يلزم إجراء مزيدٍ من الدراسات لاستجلاء ما إذا كانت الدول في الشرق الأوسط ستستغل سياسات “كوفيد-19” الحالية كوسيلة للسيطرة على الشيعة في المستقبل أم لا.

 

 

كتبت المقال ميسبا بهاتي، محللة بحوث بمركز الدراسات الدولية والإقليمية

 

طالع المزيد عن مشروع كوفيد البحثي من خلال هذا الرابط.

 

مراجع للاستزادة:

 

Ahmed, Qanta A., and Ziad A. Memish. “The Cancellation of Mass Gatherings (MGs)? Decision Making in the Time of COVID-19.” Travel Medicine and Infectious Disease (2020): 101631.

Diwan, Kristin Smith. “Royal Factions, Ruling Strategies, and Sectarianism in Bahrain.” In Sectarian Politics in the Persian Gulf, edited by Lawrence G. Potter, 143-179. New York, NY: Oxford University Press, 2014.

Heydari Chianeh, Rahim, Giacomo Del Chiappa, and Vahid Ghasemi. “Cultural and Religious Tourism Development in Iran: Prospects and Challenges.” Anatolia 29, no. 2 (2018): 204-214.

Perazzo, Bayan. “On Being Shia in Saudi Arabia.” Institute for Gulf Affairs Policy Brief. gulfinstitute.org/wp-content/pdfs/shialifeinsaudiarabia.pdf.

Wesley J. Wildman, Joseph Bulbulia, Richard Sosis & Uffe Schjoedt. “Religion and the COVID-19 Pandemic.” Religion, Brain & Behavior 10, no. 2 (2020): 115-117.