الأشياء تتداعى: جائحة كورونا الراهنة والتجمّعات الدينية في دولة قطر
“الكنيسة التي تمضي في سبيلها بعزم هي كنيسة مفتوحة أبوابها للجميع على الدوام”.
البابا فرنسيس
مقدمة: جاذبية الأفكار الخلّاقَة
خَطَر لي أن أقتبس عنوان هذا المقال التأملي الموجز إثر مطالعتي لعمل أدبي سطرته أنامل الروائي النيجيري تشينوا أتشيبي، أحد أبرز روائيي القارة السمراء والملقب “أبا الأدب الإفريقي الحديث” في مرحلة ما بعد الاستعمار البريطاني، والذي تناولت كتاباته الأدبية بالنقد حالة الفوضى التي خلَفَّتها جملة من التغيُرات الدينية والسياسية والاقتصادية والثقافية في المجتمعات الإفريقية في مرحلة ما بعد الاستعمار. وعندي أن التأملات التي خطّها قلم أتشيبي في شأن التداعيات الناجمة عن الفوضى والتشرد في سياق معيّن تمثل أداةً ناجعة لاستكشاف التأثيرات الناشئة عن جائحة كورونا في عالمنا اليوم؛ فالأشياء تتداعى عادةً إذا دهمتها زوبعة على حين غرة لتزلزل أركان الوضع الراهن وتأتي على ما بقي للمجتمعات من تقاليد وأعراف مقبولة، كما أن رياح التغيير تُعاجِلنا بين الفينة والأخرى بطرقٍ وأساليب لم نألفها من قبل. هكذا كان حال أتشيبي في الدفاع المستميت عن ضرورة التحلي بالإبداع الخلّاق ووضع الأمور في سياقها الملائم في خضّم ما يقع من تغيُرات كارثية، وقد علق بنفسه ذات مرة قائلاً “سيقول لك معتنق المثالية وهو ضائقٌ صدره: دُلَّني على مكان أقف عليه، وسأُحرِّك لك الأرض. لكنّ هذا المكان غير موجود، ولزامٌ علينا جميعًا أن نقف على هذه الأرض وأن نسير معها وفق سرعتها وتحركها لا وفق ما نريد”1. وبصرف النظر عن قاعدة أرخميدس التي يشوبها التكلف، فإن المشهد العالمي المتداع يستوجب مداولات مستفيضة والتأمل على صُعد شتّى، منها مناقشة التدهور البيئي، والصراعات العالمية، والفوارق الاجتماعية والاقتصادية المتعاظمة، والوصول إلى خدمات الرعاية الصحية؛ ثمّ يجدر بنا في هذا السياق أن نقف على النماذج الإبداعية الناجعة بغية التغلّب على بعض هذه المشكلات، ولنا أبلغ مثال في تمسُّك أتشيبي الصارم بتطبيق الأساليب الإبداعية إبان الأزمات بدل الركون إلى الطُرق الإلزامية المتقادَمة أو النُهج التقليدية المنعزلة عن الواقع. إن عالمنا المعاصر، وما يكتنفه من تعقيدات، يحتّم علينا ضرورة التأني في التفكير وإعمال الذهن كَيْما نبلغ الحلول التي نروم بها معالجة هذه المشكلات.
الهجمة العاتية لجائحة كورونا الراهنة
جاء العام 2020 ومعه جائحة كورونا تحمل في طياتها معول هدم يقوّض أركان المشهد العالمي برمّته في الوقت الراهن؛ غير أن هذه فرصة قلّ أن نجد مثيلها مرة أخرى لتقويم إنسانيتنا المشتركة. فهذا الفيروس الذي ضرب الكون كما لو كان موجة تسونامي عاتية خير شاهد على أن بني البشر معرضون لخطر جلل في أوقات الأزمات التي يموج بها العالم، بصرف النظر عن أعراقهم أو طبقاتهم أو أجناسهم. ولعل هذا هو الوقت الذي تتكشف فيه تجرِبة “التيه في الأرض” وحيرة الإنسان جليةً أمام ناظرنا، وهو ما يدفع بداهةً كثير من الناس إلى الاحتماء بدثار الدين الذي يأمل الجميع منه احتضانهم تحت لوائه. ومن جميع النواحي، وصمت هذه الجائحة العالمية عام 2020 بعام البلاء الجسيم من جهات شتّى؛ ففيه لحق الخراب ببنية الاقتصاد العالمي، وأُوصِدّت مداخل السفر التجاري ومخارجه، وأصاب الشلل التام كل الفعاليات الرياضية العالمية، وأُحكِم الخناق على قطاع الرعاية الصحية، وتُركت الدول النامية تلهث للخروج من عُنق الأزمة، وأُغلقت أبواب المؤسسات التعليمية في وجه مرتاديها، وأمسى العالم كالمريض الموضوع على أجهزة التنفس الاصطناعي يتوق تنسم الهواء الذي يُبقي على حياته. ومع استمرار انتشار هذا الفيروس المستجد، نجِد المجتمعات في ربوع العالم في سباق مع الزمن لاتخاذ التدابير التخفيفية وترقب وصول مَدد غيبي يعوّلُون عليه في دفع البلاء وانفراج الأزمة. ومن منظور يُغلِّب الجانب الروحي والسريالي على معطيات الواقع، فما هذا الفيروس إلا مخلوق يؤكد على صروف الدهر وتقلباته؛ وعن مثل هذا المعنى عبّر الشاعر الإنجليزي وليام بليك في إحدى قصائده قائلاً:
حُق للإنسان أن يكون
مشمولاً بالبهجة محفوفًا بالكروب
وحين ندرك ذلك حقًا
نغدو في عالمٍ مأمون
دثار بهجة وكرب نُسجا سوية
لباسًا لروحٍ قدسية
في كل لوعة وتوق
تجري بهجةٌ في جديلة حريرية
التجمّعات الدينية في غمار عاصفة كورونا
وفي دولة قطر التي يغلب عليها كثرة عدد المغتربين، تشكّل التجمّعات الدينية موئلاً كبيرًا يعزز من لُحمة المجتمع وترابطه ورفاهه، وللاستزادة في هذه الجزئية أحيل القارئ إلى ما كتبه ستيفن وارنر عن “الجماعة وأثرها في تحقيق الاستقرار”2 بالنسبة للجاليات المغتربة في مختلف البيئات الثقافية. ولكن بغية كبح جماح الفيروس من الانتشار في ربوع الدولة، فقد قررت الحكومة القطرية وقف التجمعّات الدينية التي يلتقي أفرادها معًا في رحاب مجمع الأديان؛ ويحتسب لدولة قطر في ظل هذه الأزمة الاستثنائية أخذها زمام المبادرة والتعجيل بإنفاذ التدابير المُثلى عوض غضّ الطرف والمجازفة بترك الأوضاع على عِلّاتها فيما يتعلق بالحد من انتشار هذا الفيروس المميت. ومما يُدمي القلب أسفًا أن مجمع الأديان الذي كان يعجّ بالنشاط فيما مضى – لا سيّما يوم الجمعة – قد بات خاليًا من جموع العابدين، ليس فيه إلا الصمت يسكن جنباته، ولا نبالغ إن قلنا إن الهمس يستحيل فيه الآن إلى صوت جهير يميّزه القاصِي والدَّاني؛ غير أنه لا مناص من تلك القرارات الحاسمة في ظل ما نعايشه من أزمة عصيبة. تجدر الإشارة إلى وجود قرابة 200 جماعة مسيحية تمارس عبادتها وشعائرها الدينية في رحاب هذا المجمع الفسيح بفضل سماحة الحكومة القطرية وكرمها الذي لا يدانيه كرم. أمّا المؤسسات الدينية التي طالها الإغلاق فقد تحلت بقدر كبير من الإبداع من أجل إيجاد وسيلة ناجعة لمواصلة التواصل بين أفرادها؛ حيث عمدت هذه المؤسسات إلى إنشاء طائفة متنوعة من المنصات الإلكترونية والعمل على دعمها بغية مؤازرة جموع المتدينين في خضّم هذا التغيير الهائل، وذلك في إطار ما يفرضه الوضع العالمي الراهن من ضرورة طرح مضمون ونهج جديدّين لما وصفه ديتريش بونهوفر بمصطلح “ثمن التبعية للمسيح” أو ما قد يصفه رينييه جيرار بمفهوم “ظاهرة الافتداء”. إن التحوّل الظاهر في أنماط التجمّعات الدينية وأشكالها لم يوهن عزم هذه الجماعات مختلفة المشارب ولم يفُتُّ في عضُد تجمعاتها الرسمية. صحيحٌ أن هذه الجائحة قد أفضت إلى مناخ سوداوي مُقبّض، إلا أنها انطوت على فرصة عظيمة لإمعان التفكير في النماذج والمعايير المختلفة للتجمعات الدينية، ويصدق على ذلك مقولة جواهر لال نهرو بأنه “إن كانت للأزمات والمآزق ميزة، فهي أنها تساعدنا في التفكير”3. وفي مثل هذه اللحظات المُظلمة يجد الناس الملاذ فيما عبّر عنه جيمس بالدوين بأنه “أزمنة متراكمة كالحصى”4، ولا تزال الحاجة إلى “الحقيقة المطلقة” تفرض سيطرتها في أي موقف يجد الناس أنفسهم فيه، أمّا في الظروف القاسية، فإن التحالفات المقدّسة تشكّل شعاعًا بارقًا يضئ الطريق المظلم باعثًا الأمل من جديد.
أنموذج الكنيسة الجديد
في كتابه “نماذج الكنيسة”، عمد أفيري دوليس، اليسوعي وأستاذ كُرسِيّ “لورنس مكجينلي” بجامعة فوردهام الكاثوليكية لما يربو على عِقدين من الزمن، إلى وضع “نماذج خمسة للكنيسة”، هي: (1) الكنيسة بوصفها مؤسسة دينية، و(2) بوصفها مجتمعًا روحيًا، و(3) بوصفها مكانًا لمراسم الأسرار المقدسة، و(4) بوصفها تجمّعًا يضم المؤمنين بيسوع المسيح، و(5) بوصفها مجتمعًا للتحرّر. ثمّ أسفرت الأحداث الأخيرة عن ظهور أنموذج جديد يتكشف بوتيرة متباطئة ولكن بخطى ثابتة، ألا وهو أنموذج “الكنيسة الافتراضية” الذي يُجسّد بُعدًا مبتكرًا في التعبير والتجرِبة الكَنَسِية؛ حيث أقدم المسيحيون في دولة قطر وشتّى ربوع العالم على تعديل وصية يسوع المسيح التي قال فيها “حَيْثُمَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ أَوْ ثَلاَثَةٌ بِاسْمِي، فَهُنَاكَ أَكُونُ فِي وَسَطِهِمْ” وأحالوا مضمونها إلى شكلٍ جديد، ولم نلبث إلا أن وجدنا أنفسنا في عالم جَسور جديد يلتقي فيه الناس – افتراضيًا أو إلكترونيًا إن جاز التعبير عبر وسائل التواصل المسموعة والمرئية – من أجل العبادة، وكسر الخُبز، والاحتفال بسر التناول، وإعلان قيامة المسيح الكبرى. وقد تولَّد هذا الشكل الجديد من الكنائس من رحم الابتكار والتكيُّف مع الوضع القائم، وأسفرت محنة كورونا عن منحة ممثلة في تعاظم نزعة التدّين والصلاح بين الأفراد؛ وفي دولة قطر لا تزال عِلة وجود المعتقد الديني راسخةً قوية، بل وظهر هذا المعتقد مقرونًا بسياقه الملائم حتى في ظل الظروف العصيبة. إن جميع التقاليد الدينية تحمل في جوهرها القدرة على الاستنارة والتكيف مع التغيير، وقد عمد غوتاما بوذا – واضع الديانة البوذية – إلى إدراج صفة “المؤقتية” أو “الزوال” كإحدى الحقائق النبيلة الأربعة في نظره والتي تمثّل التعاليم الأساسية في البوذية؛ فالتغيير مستمر الحدوث، والاعتراف بأن صفة المؤقتية تنشر خيوطها متغلغلةً في كل الأمور هو أولى الخطوات الملموسة نحو بلوغ التنوير. وعلى مرّ التاريخ، استطاعت التقاليد الدينية التكيُّف مع شتّى الظروف والأوضاع، ولا تزال تيارات الصحوة الدينية مستمرة في عصرنا الحالي. وفي دولة قطر، اتخذت الجاليات المسيحية مبادرات جريئة لتظل ذات جدوى في أعين أفرادها وعموم المجتمع؛ ومن ذلك سعيها إلى إنشاء منصات إلكترونية متنوعة للتأكيد على قوة إيمان أفرادها العظيم ومحبتهم الدائمة للرب في غمار هذا الارتباك والألم والعُزلة المفروضة. لقد عايش المسيحيون الأوائل فترة غير مسبوقة من القلاقل والاضطرابات، وبمرور الوقت صار شعار “الكنيسة التي طالتها يد الإصلاح تحتاج إلى تعهدها بالإصلاح على الدوام” من أبرز الشعارات المنادى بها في مسار التطور التاريخي للكنيسة. واليوم، يواصل المسيحيون في دولة قطر سيرِهم ومَشيِهم في ضوء الرب، على غرار ما فعله كريستيان، بطل رواية “رحلة حاج” التي ألَّفَها الكاتب والواعظ الإنجليزي جون بونيان. وتحت قيادة وعناية الأسقف المبجّل بول-جوردون تشاندلر وما لمسناه فيه من ثقة وموضوعية وبصيرة شاملة، أجرّت كنيسة الغِطَاس الأنجليكانية في دولة قطر العديد من الأنشطة بالتواصل الإلكتروني عبر الإنترنت تحت شعار “فضائل عيد الغِطَاس”، وتضمنت هذه الأنشطة إنشاء “مجموعة الصلاة عبر واتساب”، و”المجلس الروحي”، و”وقت تناول الشاي”، و”خدمات التعبد المباشرة عبر قناة يوتيوب”، و”مدرسة الكنيسة الافتراضية”، و”مجموعة مريم ومرثا”، و”مجموعة دراسة الكتاب المقدس الافتراضية”، هذا إلى جانب مبادرة الكنيسة إلى إرسال عطاياها ومساعداتها الخيرية إلى المحتاجين والمحرومين في دولة قطر. ولا بد من الإشارة هنا أنه مع الشروع في إجراءات الإغلاق جرّاء فيروس كورونا، انطوى الانتقال إلى هذه النماذج والتعامل من خلالها على قدرٍ كبير من التحدي؛ إلا أن الناس استطاعوا التكيُّف مع الأنماط الجديدة للالتقاء والمشاركة. وأذكر أنني شاركت بنفسي في بعض هذه الأنشطة، وأشهد بكل جوارحي على جدواها القصوى في عالم يستقصي بوارق الأمل ويروم الاستئناس بها، وهذا مما ينبغي على الكنيسة فعله بوصفها مجتمعًا للمسيحيين أن تجسّد بوضوح لا لبس فيه كل معاني التعاطف والدعم والرحمة. وفي غمار هذه الفترة الشاقّة التي تقتضي مِنّا الرَوِّية وإمعان الفكر، لا تزال التجمّعات الدينية في دولة قطر باقيةً على عهدها بنشر رسائل الطُمأنينة والإرشاد والتفاؤل في أرجاء المجتمع القطري.
خاتمة: تقبُّل الوضع الطبيعي الجديد
يتحتّم علينا في ظل الوضع العالمي الراهن أن نحرص على إبقاء جذوة الأمل مشتعلةً في نفوسنا، وأن نسعى إلى بناء النماذج التي تعيننا على استقراء الإشارات واللمحات لبلوغ قدراتنا اللامحدودة؛ وعلينا كذلك أن نقدّح زناد الفكر الجماعي بغية إيجاد سُبل مبتكرة لتحويل المِحن إلى منح سانحة، وأن نعيّ أنه لا بد لليل مهما طال أن ينجلي ببزوغ نور الفجر. ووصيتي للجميع في خضّم هذه الأزمة أن يحافظوا على سلامتهم وصحتهم، وألتمس منكم تحرّي اليقظة والمبادرة إلى دعم بعضنا بعضًا ونحن نضطلع بدورنا في الحد من انتشار جائحة فيروس كورونا؛ ونسأل الربّ القدير أن يجبر عالمنا الكسير ويؤَّمنه من خوفه، وعسى أن يهبنا الإيمان والقدرة على اعتناق عالمنا عقب أفول هذه الجائحة وأن يعيننا على تقبُّل الوضع الجديد.
كتب المقال الدكتور أكينتوندي أكينادي، أستاذ علم اللاهوت بجامعة جورجتاون في قطر.
ملاحظات:
[1] راجع: Chinua Achebe, No Longer at Ease (Oxford: Heinemann Educational Publishers, 1987), 151.
[2] راجع: Brian Steensland, “Exploring Religious Diversity and Immigration: A Conversation with Stephen Warner, Regeneration Quartely, 3/2, Spring 1997, 16.
[3] أتذكر أيضًا في هذا السياق كلمات أغنية لفرقة الروك الأمريكية “Grateful Dead” جاء فيها هذا المقطع “من حين لآخر، يظهر لك الضوء من أغرب الأماكن، إذا نظرت إلى اتجاهه الصحيح”.
[4] راجع: James Baldwin, Notes of a Native Son (Boston: Beacon Press: 1984), xix. هذا المنظور مشابه تمامًا لما وصفه الكاهن وعالم اللاهوت يوحنا المعمدان ميتز “Johann Baptist Metz” بأنه من قبيل “الحاجة التجاوزية”. انظر كتابه بعنوان “فقر الروح” (Poverty of Spirit) (New York: Paulist Press, 1998), ص 26.
طالع المزيد عن مشروع كوفيد البحثي من خلال هذا الرابط.