أثر فيروس كورونا المستجد على شؤون الأسرة في الخليج
تسبّبت جائحة فيروس كورونا المستجد “كوفيد-19” في إحداث اضطراب هائل وتعطيل لسير الحياة في جميع الدول، ومن ذلك إغلاق المدارس والشركات والأعمال التجارية وبعض مجالات العمل عن بُعد، ناهيك عن خفض الوظائف أو تقليصها في قطاعات أخرى. وأدّت القيود المفروضة على السفر الدولي والداخلي، وكذلك حظر التجمعات العامة كبيرة العدد، إلى إلغاء أو إرجاء انعقاد المؤتمرات الرئيسة وحفلات التخرُّج وغيرها من المناسبات والفعاليات المجتمعية؛ لكن تأبى الحياة إلا أن تستمر أنشطتها وأحداثها المعتادة على الرغم من كل هذه الاضطرابات. ولمّا كانت الأُسرة تشكّل ركنًا أصيلاً تنبني عليه المجتمعات الخليجية، فقد بذلت دول الخليج جهودًا حثيثة للتركيز على أولوية إتاحة الفرص اللازمة للأُسر خلال هذه الأزمة، ويُعدّ تيسير إقامة المناسبات الحياتية المهمة – كمراسم الزواج – خير دليل على وضع هذه الأولوية في بؤرة الاهتمام. ويمكن القول إن الأُسر هي أكثر الأنماط الاجتماعية القادرة على الصمود والتأقلم في عالم البشر؛ لهذا تبادر حكومات الخليج إلى اغتنام الفرص السانحة للتأكيد على أهمية استقرار الأُسر في المجتمع، فضلاً عن مواءمة خدماتها في سبيل مؤازرة الأُسر ودعمها في ظل الأزمة الراهنة.
ومن جميع الأنحاء تأتينا القصص حول الطُرق الإبداعية التي تبتكرها الأُسر، تارةً بالاحتفاء فرحًا بأيام الميلاد والذكريات السنوية وحفلات الزفاف ومراسم التخرُج، وتارةً بمواساة بعضها بعضًا – في معزلٍ – ترحًا على فقدان فردٍ من أفراد الأسرة أو صديقٍ لها جرّاء الإصابة بفيروس “كوفيد-19″، أو بسبب ظروف أخرى لا تمّت بصلة إلى جائحة كورونا. وإلى جانب المضاعفات الوجدانية الناجمة عن هذه الجائحة، يكمن وراء كل مرحلة في دورة الحياة تداعيات لوجستية معقّدة تطرح أمامنا جملة من التحديات غير المسبوقة.
تظل الأُسرة إذن من الركائز الأساسية التي ينبني عليها قوام المجتمع في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي؛ لهذا تؤكد السياسات والقرارات الحكومية على أهميتها، ويزداد هذا التأكيد خاصةً في مواجهة الاتجاهات السائدة مؤخرًا من ارتفاع المهور وتكاليف الزواج وزيادة حالات الزواج بأجنبيات وارتفاع معدّلات الطلاق. وكما يخلص أحد المحللين الإقليميين، فإن الدول تنظر إلى فيروس “كوفيد-19” باعتباره تهديدًا آخر ينطوي على احتمالية تمييع مجموع الخصائص الوراثية التي تتمايز بها الشعوب عن غيرها، وهي مسألة تثير بواعث القلق عند معظم دول مجلس التعاون الخليجي.
وفي جميع دول مجلس التعاون، أكدّت الوزارات والجهات الحكومية المعنية بدعم رفاه الأُسر العربية والنهوض بها على إمكانية بناء العلاقات والمشاركات الأُسرية الإيجابية أثناء ملازمة المنازل بسبب الأزمة الراهنة؛ فعقب إغلاق كافة أماكن التجمّعات العامة – بما في ذلك المتنزهات والملاعب – ومع تعليق الدراسة وبقاء الأطفال في منازلهم وتسيير أولياء الأمور أعمالهم عن بُعد، صار أفراد الأُسر الآن قابعين معًا طيلة الوقت. وفي سياق كهذا، تسلّط العديد من القصص الإخبارية الضوء على الآثار الإيجابية المتوخاة من زيادة مشاركة الأُسر وتوطيد الروابط بين أفرادها في خضّم العديد من التحديات الماثلة.
وفي دولة قطر، بادر معهد الدوحة الدولي للأسرة – عضو مؤسسة قطر شبه الحكومية – إلى استضافة ندوة إلكترونية اجتمع فيها نخبة من الخبراء الإقليميين لمناقشة أثر القيود المفروضة بسبب جائحة “كوفيد-19” على الحياة الأسرية. وقال المدير التنفيذي لمركز الاستشارات العائلية (وفاق) إننا بتنا نلمس تغيُرًا إيجابيًا في سلوكيات الأُسرة بوجه عام بفضل طول المدة التي يقضيها أفرادها رفقة بعضهم داخل المنزل، مضيفًا في حوار له مع وكالة الأنباء القطرية أن الأزمة الراهنة أسهمت في تعزيز الشعور بالمسؤولية وأتاحت الفرصة لوضع الأسرة في قائمة أولويات المجتمع.
يقدم مركز وفاق خدمات التوجيه والإرشاد إلى الأُسر في دولة قطر، ومنذ منتصف مارس 2020 يقدم المركز خدماته الإلكترونية لمساعدة الأُسر في تسوية خلافاتها والتوصل إلى حلول إيجابية، واضعًا نصب عينيه الحفاظ على استقرار الحياة الزوجية والعائلية. ويقدم وفاق خدمات الإرشاد فيما يُحال إليه من دعاوى من محكمة الأسرة والطلبات الخاصة، وقد أنشأت محكمة الأسرة خط اتصال رقمي مع المركز لضمان الاستمرار في تقديم هذه الخدمات العاجلة.
على نفس المنوال، شرع مكتب التوفيق الأسري بوزارة العدل والشؤون الإسلامية والأوقاف في مملكة البحرين في تقديم خدمات الاستشارات الأسرية للأُسر البحرينية بنهاية أبريل 2020. وصرّح القاضي والحَكَم المُرَّجِح بوحدة التوفيق الأسري أن الظروف الراهنة تحتّم علينا ضرورة احتواء التداعيات الاجتماعية بغية تخفيف حدة المخاطر عن كاهل الأُسر؛ ويأتي هذا الجهد في إطار مواصلة تنفيذ الخطة الوطنية للنهوض بالمرأة البحرينية (2019-2022)، لا سيمّا ما يختص منها بالحفاظ على استقرار الأُسرة.
كذلك استضاف برنامج بحوث المرصد الاجتماعي التابع لمجلس البحث العلمي في سلطنة عمان ندوة إلكترونية عبر الإنترنت حول الأثر الذي تخلّفه أزمة “كوفيد-19” على الأُسر العمانية. وناقش الخبراء المشاركون أبرز التحديات النفسية والأُسرية والتعليمية والاقتصادية والصحية التي تواجه الأسرة العمانية في ظل الأزمة الراهنة.
ومع أهمية التركيز على المنافع الإيجابية المتحققة في خضّم هذا الوضع العصيب، فلا بد أيضًا من إدراك قدر الضغوط الهائلة الملقاة على عاتق الأُسر، والتي قد تُفضي بدورها إلى تداعيات سلبية؛ إذ تشير التقارير إلى ارتفاع حالات العنف المنزلي في جميع أنحاء العالم، وليست منطقة الشرق الأوسط بدعًا من ذلك. وفي حوار صحفي مع الدكتورة شريفة العمادي، المديرة التنفيذية لمعهد الدوحة الدولي للأسرة، ذكرت أن “العنف الأسري يعتمد على فرض القوة والتحكم وعزل الضحية عن محيط الأسرة والأصدقاء، وفي ظل التباعد الاجتماعي والحَجْر المنزلي الذي تقتضيه إجراءات الدول لمنع تفشي جائحة كورونا، وكذلك ازدياد الضغوط النفسية التي يوّلدها هذا الوضع، فإنه يمكن للمعتدين ومرتكبي العنف الأسري استغلال الوضع والاستمرار في التعنيف بل وزيادته”.
إلى ذلك، ينبغي للحكومات، عوض غضّ الطرف عن هذه الحقيقة المؤسفة، السعي إلى الوقوف على انتشار حالات العنف المنزلي داخل مجتمعاتها بغية التمكّن من تقديم الدعم إلى المجتمعات المعُرّضة لتلك المخاطر. وقد قدّمت دولة قطر نموذجًا يحتذى به في هذا الصدد من خلال مركز الحماية والتأهيل الاجتماعي (أمان) الذي يوفر الحماية والتأهيل لضحايا العنف والتصدع الأسري، علاوةً على إنشائه خطوط اتصال مباشرة للإبلاغ عن حالات العنف وتقديم الاستشارات اللازمة.
ونظرًا للأهمية المحورية التي تعتليها الأُسرة والزواج في المجتمعات الخليجية، فليس بمستغرب إذن أن تبادر بعض الدول إلى تيسير الزواج حتى مع اتخاذ الإجراءات الصارمة التي تحتّم البقاء في المنزل في الوضع الراهن. وفيما يظهر أن الإمارات العربية المتحدة قد أحرزت قصب السبق في توفير غالبية خدماتها الحكومية إلكترونيًا وعبر الإنترنت؛ ومن ذلك تَوّلي وزارة العدل الإماراتية مهمة إتمام إجراءات عقود الزواج بجميع مراحلها على مستوى الدولة، مع إتاحة خدمة الزواج الإلكتروني بحلول منتصف أبريل 2020 للراغبين في إتمام إجراءات الزواج. وفي هذا النظام يُطلب من راغبي الزواج تقديم الوثائق المطلوبة عبر موقع إلكتروني مخصّص لهذا الغرض تحديدًا، يليه اختيار المأذون الشرعي، وحجز الموعد لإتمام الإجراءات وتوقيع الزوجين إلكترونيًا عن طريق أحد برامج الاتصال المرئي والمسموع – أو ما يُعرف تقنيًا باسم مؤتمرات الفيديو. ويعقب ذلك إرسال المأذون عقد الزواج الممهور بتوقيع الزوجيّن بالبريد الإلكتروني إلى المحكمة الشرعية المختصة لمراجعته واعتماده، ومن ثمّ إرسال صورة منه مباشرةً إلى هاتفي الزوجين.
كما أعلنت وزارة العدل السعودية في أوائل مايو عن إتمام 542 عقد زواج عن بُعد عبر بوّابة “ناجز” من خلال خدمة “العقد الإلكتروني للزواج”؛ وتهدف هذه الخدمة، التي أطلقتها الوزارة في أبريل 2019 واتسع نطاقها منذ ذلك الحين، إلى تسهيل إتمام إجراءات عقود النكاح واعتمادها من الوزارة دون وجوب حضور المستفيدين لمراجعة مكاتب الوزارة أو فروعها. وتتيح الخدمة للمستفيدين أيضًا إمكانية التحقق من الفحص الطبي السابق للزواج دون الحاجة إلى مراجعة المستشفى وكذلك مراجعة الشروط قبل تحديد الموعد وتسجيل الزواج إلكترونيًا، بالإضافة إلى تسجيل واقعة الزواج إلكترونيًا لدى الأحوال المدنية.
ومن شتّى الدول تطالعنا أخبار الأزواج الذين اختاروا إقامة حفل زفافهم إلكترونيًا أو بحضور عددٍ قليل من ذويهم وأحبائهم؛ ففي مصر قرّر زوجان التعجيل بإقامة زفافهما بحضور أفراد الأُسرة المقربين فقط في حفل بسيط وأجواء مفعمة بالإيجابية خلت من مظاهر البهرجة والتخطيط المُرهَق والتكاليف الباهظة التي تشوب حفلات الزفاف الكبرى في مصر. وشهدت الإمارات إقامة حفل زفاف مفاجئ عبر الإنترنت من جانب الأُسرة والأصدقاء لعروسين فلسطينيين كانا قد عقدا العزم على إقامة حفل زفافهما في أحد فنادق دبي؛ لكنهما لم يتمكنا من تأجيل الحجز بسبب فيروس كورونا، ما اضطرهما إلى إلغاء قضاء شهر العسل في جزيرة بالي، وعبّر الزوجان عن امتنانهما لمبادرة الأُسرة والأصدقاء إلى تنظيم هذا الحفل الذي أسعدهما سعادةً بالغة في هذه الأوقات العصيبة.
كما كان لقوات الأمن المحلية في العراق مشاركة مبهِّجة في مثل هذه المناسبات السعيدة، إذ ساعدت قوات الشرطة عروسين عراقيين على إقامة حفل زفافهما على الرغم من فرض حظر التجول ومنع التجمعات العامة التي تزيد عن 10 أشخاص؛ وقامت الشرطة بنقل العروس فيما يشبه “الزفّة العسكرية” إلى عريسها في منزل العائلة، مانحةً إياهما ذكرى تدوم في مخيلتهما في قابل الأيام.
من الخدمات المهمة الأخرى إصدار دولة الإمارات لشهادات الميلاد والوفاة إلكترونيًا، بل وبإمكان المقيمين بها صياغة وصاياهم وتسجيلها عبر الإنترنت أيضًا. وإذا سلّمنا بوجود دول أخرى في المنطقة تحذو حذو الإمارات في تقديم خدمات مشابهة، فليس من السهل تحديد مدى توفر هذه الخدمات من عدمه من خلال تصفّح الموقع الإلكتروني للوزارة المعنية بتقديم الخدمات. وقد أعلنت دولة قطر في هذا السياق تحديدًا عن تعليق إصدار شهادات الميلاد اعتبارًا من 22 مارس حتى ورود إشعار آخر، ناهيك عن عدم وضوح إجراءات تسجيل المواليد الجُدد في قطر خلال هذه الفترة، مما يشكّل مصدر توتر وإرباك للوالدَين حديثي العهد بالأبوّة والأمومة.
غير أن التوسّع في تقديم الخدمات الإلكترونية ينطوي على بعض المعوّقات؛ فمثلاً لم تكن إجراءات إعادة العمّال المقيمين الذين وافتهم المنيّة إلى أوطانهم بالأمر البسيط أو المباشر، ثم شاب هذه العملية تعقيد أكبر في ضوء القيود الجديدة المتعلقة بنقل جثامين المتوفين بسبب مضاعفات الإصابة بفيروس كورونا المستجد. وقد تعرّضت مجموعة من الأُسر الهندية لمآسٍ بالغة عندما أعادت السلطات الهندية إلى أبوظبي رفات ثلاثة هنود توفوا في العاصمة الإماراتية لأسباب لا تتعلق بفيروس كورونا بسبب تعقيد الإجراءات الجديدة المتعلقة بدخول الجثامين إلى الهند. ومع البدء في إنفاذ هذه النُظم، يتعين على الحكومات تقديم التوجيهات الواضحة حول بعض المسائل والإجراءات المتضمنة بها.
لقد أفضت جائحة “كوفيد-19” إلى تعطيل كافة مناحي الحياة في شتّى أرجاء العالم، لكنّ الحياة ماضية لن تتوقف على الرغم من القيود المفروضة للحد من انتشار هذه الجائحة. وتواصل دول الخليج مساعيها في التأقلم مع الأوضاع الراهنة والتكيف معها بغية دعم “الأُسرة” التي تراها ركيزة أساسية في قوام المجتمع الخليجي، علاوةً على استغلال الأزمة الحالية كفرصة سانحة لدعم المُثل التي تقوم عليها الأُسر القوية المستقرة.
كتبت المقال إليزابيث وانوشا، مديرة المشروعات بمركز الدراسات الدولية والإقليمية
مراجع للاستزادة:
Wanucha, Elizabeth and Zahra Babar, guest eds., “Family in the Arabian Peninsula,” CIRS Special Issue of Hawwa 16, nos. 1–3 (November 2018)
Wanucha, Elizabeth. “Family in the Arabian Peninsula”, Hawwa 16, 1-3: 5-25, doi: https://doi.org/10.1163/15692086-12341339
Safar, Jihan. “Explaining Marriage Payments”, Hawwa 16, 1-3: 90-143, doi: https://doi.org/10.1163/15692086-12341338
Hassan, Islam. “Social Stratification in Qatari Society”, Hawwa 16, 1-3: 144-169, doi: https://doi.org/10.1163/15692086-12341337
Alharahsheh, Sanaa Taha, and Faras Khalid Almeer. “Cross-National Marriage in Qatar”, Hawwa 16, 1-3: 170-204, doi: https://doi.org/10.1163/15692086-12341336
Möller, Lena-Maria. “Family Law in the GCC and the Best Interests of the Child”, Hawwa 16, 1-3: 309-332, doi: https://doi.org/10.1163/15692086-12341341
Hedges, Matthew. “Gulf States Use Coronavirus Threat to Tighten Authoritarian Controls and Surveillance.” The Conversation. Accessed May 3, 2020. http://theconversation.com/gulf-states-use-coronavirus-threat-to-tighten….
Harkness, Geoff and Rana Khaled. “Modern Traditionalism: Consanguineous Marriage in Qatar.” Journal of Marriage and Family 76 (2014): 586-603.
El-Haddad, Yahya. “Major Trends Affecting Families in the Gulf Countries.” Report for State of the World’s Children, UNICEF, 2003.
Joseph, Suad. “Patriarchy and Development in the Arab World.” Gender and Development 4 (1996): 14-19.
طالع المزيد عن مشروع مركز الدراسات الدولية والإقليمية الخاص بالأُسرة الخليجية من خلال هذا الرابط.