لمحة عن فكرة الورشة
أدّى الربط الرقمي إلى نموٍّ هائل في البيانات، وأحدث تحوّلاً في طريقة جمع البيانات وتخزينها وتحليلها واستخدامها، حتى غدت البيانات الضخمة نموذجًا ناشئًا يتم تطبيقه لوصف الكمّ الهائل من البيانات، المنظّمة والعشوائية، التي يتم استخراجها وجمعها يوميًا ويصعُب معالجتها باستخدام البرمجيات وقواعد البيانات. وقد قدّرت الهيئات الدولية للبيانات أن حجم العالم الرقمي سيصل إلى 44 زيتا بايت (1 زيتا بايت = 1024 تيرا بايت) بحلول العام 2020. ويُستعان في استخراج هذه البيانات وجمعها بوسائط شتى، مثل الإنترنت والوسائط الاجتماعية والاتصالات والصور الرقمية والخدمات والأعمال وإنترنت الأشياء. وقد غدت البيانات موردًا قيّمًا، وتسعى بلدان عدّة، في ظل التقدّم المحرز في تحليل البيانات الضخمة واستخراجها، إلى اكتساب ميزة رائدة في هذا المجال الجديد.
وترتبط البيانات الضخمة ارتباطًا وثيقًا بنمو القدرات الحاسوبية، وأفضل طريقة لفهمها هي الإلمام بعناصرها الأربعة الرئيسة، وهي الحجم، والسرعة، والتنوع، والدقة. وتتيح البيانات الضخمة وترابط البيانات فرصًا متعدّدة لإعداد الاستراتيجيات الخاصة بالتنمية وتعزيز عملية اتخاذ القرار وتحسين سير تقديم الخدمات ودعم نمو الأعمال والصناعات. وقد كانت الحكومات والقطاع الخاص في الشرق الأوسط من أولى الجهات التي تبنّت تحليلات البيانات الضخمة. ورغم أن البيانات الضخمة مجالٌ مستجد، فإن العمل يجري على قدم وساق لتسخير إمكاناتها في العديد من القطاعات في عموم المنطقة. فإدماج البيانات الضخمة بات ركيزةً أساسية في تطوير البنية التحتية واقتصاد المعرفة ذي الصلة وتوجّهات الأسواق في الشرق الأوسط.
ولدراسة ديناميات البيانات الضخمة وتطبيقاتها في منطقة الشرق الأوسط، يعتزم مركز الدراسات الدولية والإقليمية بجامعة جورجتاون في قطر عقد اجتماع طاولة مستديرة بعنوان “واقع البيانات الضخمة في الشرق الأوسط”. وسيشارك في هذا الاجتماع مجموعةٌ من الباحثين والخبراء وممارسي الأعمال لمناقشة الموضوع من المنظورين السياسي والاجتماعي-الاقتصادي، وتدارس الفرص التكنولوجية الفريدة التي تتيحها البيانات الضخمة لمختلف القطاعات الاقتصادية. كما ستتناول الندوة البحثية طائفةً واسعةً من المواضيع، منها وسائط التواصل الاجتماعي، والمدن الذكية، ومسألة اللاجئين، والرعاية الصحية، والمتاحف.
ولئن كان مجال البيانات الضخمة لا يزال يشهد نموًا، فإن قيمته وتأثيره واستخدامه في بحوث العلوم الاجتماعية في الشرق الأوسط لم يحظَ بعدُ بالقدر الكافي من الدراسة. ويمكن للباحثين استخدام المعلومات المستمدة من مصادر البيانات المحلية في المنطقة لتناول العديد من مسائل العلوم الاجتماعية وقياس التأثير الاجتماعي. فتكنولوجيا البيانات الضخمة تتيح إمكانياتٍ هائلة يمكن أن يُستفاد منها استفادة جمّة في تعزيز تنمية القطاعات المختلفة واستدامتها، ويمكن أن تعين على سدّ الفجوات المعرفية في بحوث العلوم الاجتماعية ضمن أطر زمنية أقصر. ورغم أن الشركات الكبرى تستخدم البيانات الضخمة على نطاق واسع لتقديم خدمات موجّهة نحو السوق وإحكام قبضتها على الأسواق الإقليمية والعالمية، فإن البيانات التي يتم جمعها من المنطقة يمكن أن تساعد على معالجة القضايا الاجتماعية والسياسية والبيئية والديموغرافية التي يواجهها السكان حاليًا في الشرق الأوسط.
ولا تكون البيانات الضخمة، والبيانات عمومًا، مفيدةً إلا إذا كان لها معنى وكان من الميسور استخراج المعلومات الصحيحة منها. ويعدّ تحويل هذه المعلومات إلى رؤية أمرًا أساسيًا لإنشاء إمكانيات ابتكارية جديدة في قطاعات مثل التعليم وصنع السياسات والرعاية الصحية والنقل والبنية التحتية وسوق العمل الفعال. ويعدّ قطاع الهيدروكربون، وفقًا لتحليلات الأعمال، أكثر الصناعات استخدامًا للبيانات الضخمة في الشرق الأوسط. فعملية البحث عن الهيدروكربونات وإنتاجها تولّد كمية كبيرة من البيانات؛ ويقتضي تفسير هذه البيانات تقنيات جديدة لتحقيق نتائج أسرع واتخاذ قرارات دقيقة. ويمكن أن تُعِين تحليلات البيانات الضخمة في قطاع الهيدروكربون على معالجة إنتاج الهيدروكربون، واستحداث موارد جديدة، وكذلك توفير السبل التي تيسّر للمنطقة المحافظة على البيئة وتحديد الاتجاهات للانتقال إلى اقتصاد منخفض الكربون.
وقد أحدثت وسائطُ التواصل الاجتماعي ثورةً في طريقة تفاعل الناس بعضهم مع بعض وتفاعلهم مع العالم بأسره. أما في الشرق الأوسط، فقد أدّت وسائط التواصل الاجتماعي دورًا فعالاً خلال الربيع العربي، إذ من خلالها كانت تدار الحملات السياسية والانتخابات، وهي منصة حيوية للحوار والنقاش العام. وتولّد هذه الأنشطة كمًّا كبيرًا من البيانات التي يمكن استخراجها لمعالجة الأسئلة المتعلقة بمختلف الديناميات الاجتماعية والاقتصادية والطبقة والمجتمع والثقافة. وأصبحت وسائط التواصل الاجتماعي والشبكات كذلك أداةً يمكن من خلالها للدولة رصدُ الرأي العام والأنشطة ومراقبتهما. لكن أحد العوامل الرئيسية في تحليل هذه البيانات هو اللغة التي تُنتَج بها، كاللغة العربية أو التركية أو العبرية أو الفارسية؛ وبما أن العديد من الأدوات والتقنيات القائمة لمعالجة البيانات تُنتَج من الغرب فهي تشكل تحديًا عندما يتعلق الأمر بتحليل البيانات المنتَجة بهذه اللغات. كما أن فهم الظواهر العامة التي تميّز وسائط التواصل الاجتماعي في الشرق الأوسط أمر أساسي لتناول مسائل أبحاث العلوم الاجتماعية في المنطقة.
وفيما يخص قطاع الرعاية الصحية، في حقبة البيانات الضخمة هذه، فهو يطمح أيضًا إلى الاستفادة منها قدر الإمكان في الأبحاث القائمة على السياسات. فقد وافقت الحكومة الإسرائيلية، في عام 2018، على إتاحة الوصول إلى البيانات الصحية المخزونة لدى المؤسسات الصحية المحلية بقصد تحسين الخدمات والبحث والتطوير في مجال الصحة. وسيتاح للباحثين الآن الوصول إلى البيانات الصحية للبلد، التي تتولى منظماتُ الرعاية الصحية الحفاظَ عليها جيدًا وتحديثها بشكل روتيني. ويُرمى من هذا المشروع إلى تقاسم هذه المعلومات للاسترشاد بها والاستناد إليها في الابتكار في مجال الطب. لقد أصبح بين أيدي صانعي السياسات والممارسين الصحيين الآن كمٌّ هائلٌ من البيانات يتيح لهم اتخاذ قرارات مستندة إلى الأدلة.
ووفقًا لمنظمة العفو الدولية، فرّ أكثر من أربعة ملايين لاجئ من النزاع في سوريا، ومعظمهم الآن في تركيا ولبنان والأردن والعراق ومصر. ويعدّ توفير المأوى والغذاء والرعاية الصحية الأساسية لهؤلاء اللاجئين عملاً كبيرًا يقتضي التنسيق بين مئات المنظمات الحكومية والقطاع الخاص والمنظمات الطوعية. وتؤدي الخدمات اللوجستية دورًا مهمًا عندما تكون الأعداد كبيرة بهذا القدر، ويمكن الاستعانة بالبيانات والتحليلات التي تعتمد على التكنولوجيا في استخدام أساليب مبتكرة قد تنقذ أرواحًا. ففي تركيا يستعين الباحثون بالبيانات الضخمة لتكوين فهم أفضل للطوارئ الإنسانية واقتراح حلول تكنولوجية وسياسية في نفس الآن لحلّ المشكلات التي يواجهها اللاجئون.
من ناحية أخرى، حظي مفهوم “المدن الذكية” في السنين الأخيرة باهتمام واسع في الأوساط الأكاديمية ومن جانب الحكومات والشركات على مستوى العالم، ولا سيما في الشرق الأوسط. وتهدف مشاريع من قبيل “دبي الذكية” (الإمارات العربية المتحدة)، وبرنامج قطر الذكية “تسمو”، و”الخطّة الحضرية الجديدة” و”الخطة الاستراتيجية لموئل الأمم المتحدة 20/25″ (مصر) إلى إنشاء مدن حضرية تراقَب بواسطة الأجهزة الرقمية. وستنتِج البنية التحتية في هذه المدن البيانات الضخمة وتوثّقها، وستوجّه المعلوماتُ المستمدّةُ من هذه البيانات شؤونَ الحوكمة. والقصدُ من هذه المبادرات إجراءُ تحليل آني للحياة في الحواضر، وابتكار أنماط جديدة لإدارة الحواضر، وتوفير المادة الخام لتصوّر وتنفيذ مدن أكثر كفاءة واستدامة وتنافسية وإنتاجية وانفتاحًا وشفافية. ومن المجالات الأخرى التي يمكن أن تثبت فيها جدوى البيانات الضخمة وتقنيات المدن الذكية تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الخضراء، والاستدامة، والأنظمة المراعية لاستهلاك الطاقة، وتخطيط الحواضر والعيش فيها، وتحسين جودة الحياة.
على الجانب الآخر، تنتج المتاحف يوميًا كمًّا كبيرًا من البيانات، بما في ذلك البيانات التي يتم جمعها من خلال الفهرسة، والحفظ، والصيانة، والرقمنة. وكذلك تنتج الوظائف التشغيلية للمتاحف، مثل الاتصالات، والإدارة، والبحث، والتسويق، والزوار والفعاليات، والأنشطة التعليمية، والجولات، وتعليقات الزوار التي تُجمع من الإنترنت ومن خارجه، كمًّا كبيرًا من البيانات. وتتيح المعلومات المستخرجة من هذه البيانات تكوين فكرة عن معروضات المتاحف التي تحظى بأكبر قدر من الاهتمام، وأيّ تصميمات للمعارض يفضّلها الضيوف وأيّ استراتيجيات تسويق تعمل بشكل أفضل لمحلات بيع الهدايا والبضائع في المتاحف. ويمكن استخدام مجموعات البيانات هذه بشكل أكبر للتنبؤ بفعاليات المتاحف، مثل معارض المجموعات والأنشطة التعليمية، على نحو يرفع أعداد الزائرين وتفاعلهم ومشاركتهم. ويستطيع الباحثون، من خلال هذا الكمّ الهائل من البيانات التي يتم جمعها، تناول المسائل المتعلقة بتفاعل الجمهور مع الفن والثقافة.
لتناول هذه الأسئلة واستعراض التحديات في مجال البيانات الضخمة وعلم البيانات، يعقد مركز الدراسات الدولية والإقليمية هذه الورشة التي سيلقي خلالها الباحثون والخبراء والمهنيون المدعوون الضوءَ على أهمّ الثغرات في الأبحاث الحالية ويقترحون أفكارًا لدراستها في المستقبل.
مقال بقلم ميسبا بهاتي، محلل أبحاث في مركز الدراسات الدولية والإقليمية